د.فوزية أبو خالد
يمر العالم اليوم بحالة من توتر الأعصاب المحق تجاه الأزمة الروسية الكرواتية باحتمالاتها المفتوحة على جحيم الحرب بذلك التأرجح بين سيناريو الحرب المحلية الروسية الكرواتية والحرب الإقليمية بين الأوربيتين الشرقية والغربية والحرب العالمية التي قد تدخلها أقطاب الهيمنة العالمية ممثلة بروسيا والصين من جهة وبالولايات المتحدة الأمريكية ودول الاتحاد الأوربي وبريطانيا من الجهة الأخرى لتجر معهما دول العالم حسب انقسامات تحالفاته وولاءته تجاه تلك الأقطاب بما فيها منطقة الشرق الأوسط لما لها من تشابك اقتصادي وسياسي وعسكري مع تلك القوى.
وإذا كانت الكثير من الكتابات التحليلية والمقالية باللغتين الإنجليزية مما يقع في متناول يدي وفي متناول يد الكثير من قراء اللغتين أو اللغة العربية قد أشعلت فضول المتابعين والمتوجسين من هذه الحرب بالمعلومات المتضاربة عن هذا الوضع المحتقن، فلا أظن إلا أنها زادت وتزيد من إشعال المخاوف ومن إضفاء المزيد من الغموض الوجودي المصاحب عادة حتى للحروب العادلة، لو كان هناك حروب عادلة، فما بالك بحروب لا تريد أكثر من توسيع دائرة سلطة الهيمنة. وقد جرى في سياق تلك الكتابات الكثير من الحديث عن نوع المطامع الروسية في أوكرانيا التي أدت إلى انتزاعها لإقليم القرم عام 2014 من دولة أوكرانيا، وعن خطابها التبريري اليوم لقيامها بحشد أكثر من 100 ألف محارب وأعقد أنواع العتاد على الحدود الشرقية لأوكرانيا، عدا عن المعلومات غير المعلنة في ذلك الخطاب فيما يخص التحرز الروسي من تطويق روسيا بحزام حلف الناتو وخلق نظام ديموقراطي في أوكرانيا على نمط دول الاتحاد الأوربي نقيض للحالة الروسية. كما جرى سيل آخر من المعلومات الخاصة بأوكرانيا كدولة شابة تقع على جغرافيا تتجاور فيها الأوربيتان الشرقية والغربية، وتعمل على تأسيس نظام سياسي مستقل عن السطوة الروسية التي عاشت في ظلها طوال العهد السوفيتي بما خلفه فيها من انشطارات مفتعلة لنسيجها الاجتماعي الذي تعيش قسوة انقساماته اليوم بما يستغله القيصر الروسي المستجد السيد بوتن لمزيد من سكب الغاز على حطب تحشيده للتهديد بالحرب. هذا بالإضافة لما ذكر عن ذلك الاشتباك المضمر بين أمريكا والصين في غطائه المتستر بالاشتباك بين الأمريكيين والروس على المسرح الأوكراني من ناحية ومسرح دول الاتحاد الأوربي من الناحية الأخرى، ولكن دون أن تستطيع تلك المعلومات أنى بلغت من الدقة أو المبالغة ومن الشفافية أو التستر من الكشف عمَّا تخفيه الخطابات السياسية من تضليل متعمد وتعمية مضللة لفداحة التهديد بالحرب فما بالك بنشر صواريخها ونصب بوارجها وتطويق الغلاف الجوي بنيرانها.
والحقيقة أن لا أحد يستطيع أن يخبرك بما تخفيه الخطابات السياسية من جنون الحروب وأوجاعها وظلمها وظلمتها ومآسيها إلا أولئك الذين عاشوا فداحة الحرب دون أن يؤخذ رأيهم في إشعالها ودون أن يعيشوا ليحكوا مآسيها إما لأنهم قتلوا فيها أو لأنهم لم يريدوا أن يتذكّروها أو لأن عاهة الصمت قد لازمتهم كواحد من أخف أثمانها فوق الباهظة.
وربما يكون هذا السبب بالذات أي القدرة على فضح فداحة الحروب هو الذي خلد رواية الكاتب الروسي ليو تولستوي «الحرب والسلام» 1869م وجعلها تترجم لمعظم اللغات الحيَّة في العالم في تعطش من البشرية جمعاء لمقاومة طوفان الحرب السالخ للإنسانية عن إنسانيتها بقطرة حبر من حلم السلام.
وقد يكون الكشف عمَّا في الخطابات السياسية من تكتم على مأساة الحرب كأكبر فعل تراجيدي مزلزل لجوهر العمران البشري ولقيمة الحياة هو نفسه السر البسيط المعقد الموجع المبرح المقلق المؤرّق الذي جعل كتاب «ليس للحرب وجه أنثوي» 1985م (الذي جاء من روسيا أيضاً وبعد أكثر من مئة عام) كتابًا خالدًا وأخرجه من حيز اللغة الروسية إلى أفق أكثر من خمس وعشرين لغة من لغات العالم اليوم ورشحه للفوز بجائزة نوبل 2015م. وإذا كان كتاب «الحرب والسلام» جاء لمواجهة ضراوة الحرب بريشة السلام مزيجًا مدمجًا من الأدب الروائي وأدب مقالة الرأي في مجابهة جنون الحرب بأسئلة الخيال ورشد الفلسفة، فإن كتاب «ليس للحرب وجه أنثوي» جاء بشوكه ومشيمته دون المرور بمصافي الكلام حاراً دافقاً من شهادات أكثر من مائتي امرأة دخلن الحرب صبايا ممشوقات (39 عاماً - 45م) ولم يخرجن منها إن خرجن إلا بقامات معقوفة كعلامات استفهام أبدية في وجه الحروب. وليس لعلامات الاستفهام التي تشكَّلت عبر تجارب التاريخ الإنساني من أرواح ولحم ودم إلا أن تقف في حلق خطابات السياسة وتقول لا للحرب أمس لا للحرب اليوم ولا للحرب غداااا.