د. أحمد بن محمد السالم
إن من يجهل التاريخ يعتقد أن المملكة العربية السعودية وليدة اليوم وحديثة العهد، في حين أن التاريخ وما يحمله من وثائق ووقائع يؤكد أن الدرعية كانت البذرة الأولى لهذه البلاد المباركة الشاسعة المترامية الأطراف قبل قرون من الزمن.
فالدرعية معروفة منذ القدم بآثارها وطرازها المعماري، وبخصوبة أرضها، وطبيعتها الخلابة، وتلالها الخضراء، وأجوائها الممتعة، وبساتينها ومزارعها الجميلة المطلة على ضفتي وادي حنيفة، المليئة بما لذ وطاب من أصناف الخضار والفواكه، وأتذكرها أيام طفولتي عندما كنت أعيش مع الأهل في الدرعية، وكانت مزارع الدرعية في ذلك الحين مصدراً لتوظيف وتشغيل أبناء القرى والهجر المجاورة.
وليس هناك أدق من وصف المؤرخ والأديب المعروف عثمان البشر الذي عاصر الدولة السعودية الأولى والثانية لحال الدرعية ، عندما قال: «لقد رأينا الدرعية بعد ذلك في زمن سعود بن عبد العزيز بن محمد بن سعود رحمهم الله تعالى، وما في أهلها من الأموال وكثرة الرجال والسلاح المحلى بالذهب والفضة، وعندهم الخيل الجياد والنجايب العمانيات، والملابس الفاخرة، والرفاهيات ما يعجز عن عده اللسان...».
وما كانت الدرعية لتعيش قروناً من الاستقرار والنمو، لولا توفيق الله، ومن ثم حنكة وحسن إدارة وتعامل أمرائها من آل سعود مع الأهالي والتفاعل مع احتياجاتهم، ابتداء بمؤسس إمارة الدرعية الأولى في عام 1446م، جد أسرة آل سعود، مانع بن ربيعة المريدي، الذي استقر هو وعائلته في المليبيد وغصيبة، من أقدم وأشهر أحياء الدرعية، واللذين اقتطعهما له ابن عمه ابن درع، رئيس حجر اليمامة الأمير عبد المحسن بن سعيد الدرعي. وعلى هذا الأساس جاءت تسمية الدرعية على ابن درع.
توارث أبناء مانع إمارة الدرعية لأجيال عديدة، حتى انتقلت الإمارة للإمام محمد بن سعود، الذي وضع اللبنات الأساسية في 22/2/1727م، لقيام دولة سعودية في عام 1744م، بدأت تتشكل ملامحها، وتتعمق جذورها، برفع راية التوحيد خفاقة على كل أحياء الدرعية، وجعل القرآن الكريم وسنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - دستوراً ومنهاجاً للعمل والتعامل، وسن أنظمة قضائية ومالية تتماثل مع ما كان معمولاً به في الدولة الإسلامية. وأصبحت الدرعية، بلدة آباء وأجداد الإمام محمد بن سعود، عاصمة لدولته، ومركز نمو واستقرار أمني وسياسي وإشعاع ديني وثقافي، واتسع نفوذ وسيطرة حكام الدولة السعودية الأولى والتي امتدت إلى عام 1818م، لتشمل ما يسمى حالياً بالمملكة العربية السعودية، وأجزاء أخرى من الدول المجاورة، أي معظم شبه الجزيرة العربية.
ولم يمض وقت طويل، على انقضاء الدولة السعودية الأولى، حتى قامت الدولة السعودية الثانية على يد الإمام تركي بن عبد الله بن محمد بن سعود عام 1824م، ونقل عاصمة الدولة السعودية من الدرعية إلى الرياض.
وما أن انتهت الدولة السعودية الثانية في عام 1891م، حتى قيض الله للبلاد والعباد، إماماً عادلاً وحاكماً مصلحاً هو الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود، طيب الله ثراه، وبدأت الدول السعودية الثالثة باستعادة الرياض عام 1902م، وترسيخ الحكم في هذه الأسرة المالكة الكريمة التي كلها خير وبركة على الجميع، فقد أمضى الملك عبد العزيز أكثر من ثلاثين عاماً من عمره في سبيل لم الشمل، وتوحيد الصفوف، وتعزيز الأمن والاستقرار في كل أنحاء المعمورة.
وفي عام 1932م، أعلن عن وحدة شاملة لكامل المناطق والأقاليم التي كانت تحت سيطرته، في شبه الجزيرة العربية، باسم المملكة العربية السعودية، فأصبحت البلاد واضحة المعالم والحدود، راسخة الجذور، قادرة على الصمود ومواجهة التحديات، فاستكمل أبناؤه البررة من بعده مسيرة الخير والعطاء، فتوالى على الحكم أبناؤه الملوك (سعود، فيصل، خالد، فهد، عبد الله) رحمهم الله، وأمد في عمر خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز وولي عهده الأمين. فقد بدأت المملكة في عهده الميمون ومنذ اعتماد رؤية المملكة 2030 في عام 2016م مرحلة من التطوير الشامل والإصلاحات الجذرية في شتى مناحي الحياة، لجعل المملكة في مصاف الدول المتقدمة بحلول عام 2030م بإذن الله، محققاً مرحلة جديدة وواعدة للأجيال القادمة، ويحق لنا أن نحتفل بقيادتنا وإنجازاتها للوطن والمواطن، الذين توارثوا الحكم أباً عن جد عبر قرون من الزمن، غايتهم صلاح البلاد والعباد.
فجزاهم الله عنا خير الجزاء وجعل ما قدموه للإسلام والمسلمين وللإنسانية جمعاء في ميزان حسناتهم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته....
** **
- نائب وزير الداخلية سابقاً