( 1 )
يعيش الإنسان حياته حسبما يتنفسه كل يوم من سلوك وقيم وأخلاق وثقافة، والتي تؤثر على مستوى تفكيره ، وعمق ومتانة علاقته بأهله وأصدقائه ووطنه .
وقد يأخذ المرء ببعض أو معظم ما يلمسه أو يسمعه من رفيقه أو صديقه أو أخيه من أفكار أو تجارب حياتية أو تحليلات اجتماعية أو سياسية أو اقتصادية، فيضيفها حسب قناعاته إلى مخزونه المعرفي والثقافي .
وانطلاقًا من علاقتي الأخوية الطويلة، ومشاهداتي اللصيقة لأخي الفقيد محمد الفريح - رحمه الله - ، فقد وقفت على مستوى وحجم علاقاته الاجتماعية مع العديد من طبقات وأطياف المجتمع، وخرجت بانطباعات وقناعات عديدة منها ضرورة مراجعة الكثير مما علق في ذهني وسلوكي من أفكار، ومسح ما تأثرت به وآمنت فيه مع بدايات تفتحي الذهني مثل (ما لم يكن معك فهو ضدك)، وبدأت الأخذ والتعامل مع إيجابيات الأشخاص دون الالتفات إلى سلبياتهم.
«إن هذه الحياة أقصر من شهقةٍ وزفيرها
فلا تغرس بها سوى بذور الحب»!
( 2 )
لم ينقطع اتصالي الشخصي بالفقيد إلا قبل وفاته - رحمه الله - بأربعة أيام، نتيجة لدخولي تحت مظلة عائلية عاطفية أشغلتني عن قيامي بواجب السؤال والاتصال الهاتفي بأبي عبد الرحمن، ومع ذلك لم تقف هذه المظلة العاطفية عن هواجسي ورغبتي بزيارته كالمعتاد، فهاتفت الابن الغالي عبد الرحمن ووالدته بعدما تعذر رده مساء الأربعاء 9 فبراير للسؤال والاطمئنان عليه وإبداء رغبتي في الحضور، إلا أنهما وبعد شرحٍ وإيضاح تامين لما يعانيه، اتفقنا على أهمية حضوري في تمام الساعة الواحدة والنصف من بعد ظهر يوم الخميس 10 فبراير للتحدث معه وإليه بشفافية.. إلا أنني وأثناء حديثي مع الأخ العزيز المهندس محمد السابق في حدود الساعة العاشرة من مساء ذلك اليوم موضحًا له تفاصيل الحديث الهاتفي الذي جرى مع عائلة الفقيد، لم يدر بخاطري بأنه كان يستعد للرحيل لرحاب رب العالمين، حيث أسلم الروح في حدود العاشرة وأربعين دقيقة بعيدًا عن إجراءات المستشفيات والأجهزة الطبية والأدوية والممرضات، وبين يدي رفيقة روحه وشريكة حياته وعمره.
كان المغفور له - بإذن الله - مؤمناً نزيهاً ومخلصاً لوطنه وأهله شهماً نبيلاً، عفيف اليد واللسان، غنياً بكرامته وعزة نفسه، رقيقاً لطيفاً مهذباً، لم يرد سائلاً محتاجاً .
«وإذا أراد الله أمرا لم تجد
لقضائه ردا ولا تحويلا»
( 3 )
لفقيدنا الغالي مسيرة حياتية زاخرة حافلة بالكثير من الكفاح والمعاناة وقصص النجاح التي تستحق أن تروى، فقد توفي والد أبي عبد الرحمن في سن مبكرة، وعاش في عنيزة لفترة محدودة ثم انتقل منها حسب رغبة عمه للعيش معه في مكة المكرمة، حيث تمكن من توظيف وقته وجهده وصبره في مواصلة تعليمه الابتدائي والثانوي والعمل إلى جانب عمه في دكانه، إلى أن تم ابتعاثه لمصر للدراسة الجامعية في جامعة فؤاد الأول (جامعة القاهرة حالياً)، وحسبما ذكر لي الفقيد فقد عاش وتنفس وعانى شظف العيش في مكة والقاهرة، إلا أنه استطاع السيطرة على هذه المعاناة بصبره وإيمانه وكرامته، مما أسس وخلق وزرع على المدى الطويل قاعدة صلبة لسلوكه العام والخاص.
عمل بعد تخرجه في وزارة المعارف بقسم التحريرات، وبعد وقت محدود تم اختياره عام 1954 م ليصبح أول ملحق ثقافي في لبنان وسوريا ، حيث بقي في بيروت مدة لا تقل عن أربع سنوات جميلات مشرقات في تاريخ حياته، وعاد إلى الرياض بعد تعيينه مديراً عاماً لوزارة المعارف، وقد حاول في تلك الفترة مع زملاء آخرين إحداث بعض التغيير في أسلوب وثقافة التعليم لدى بعض المسؤولين في الوزارة آنذاك، إلا أن الحظ لم يحالفه فغادر الوزارة في عام 1964م.
« وما دنياك إلا مثل فيءٍ
أظلك ثم آذن بانتقالِ»
(4)
بعد مغادرته العمل الحكومي ، كانت له عدة محطات عمل في القطاع الخاص، حيث استقبلته شركة كهرباء الرياض من خلال انتخابات الجمعية العمومية التي عقدت في بهو أمانة بلدية الرياض بشارع الجامعة في صيف عام 1964م، حيث تمكن من الفوز بعضوية مجلس الإدارة، ومن ثم تم اختياره عضواً منتدباً ومديراً عاماً للشركة.
حاول وبجهد جهيد تعديل الفكر الإداري المسيطر حينذاك على الشركة، حيث قام بالتعاقد مع كفاءات عربية لشغل مناصب المراقب المالي ومدير المحاسبة وأعطى توجيهاته بتصفية وقفل كافة الحسابات القديمة القائمة، وفتح حسابات ودفاتر جديدة تخضع لمعايير المحاسبة وتحت إشراف الكفاءات التي قام باستقطابها وتعيينها .
بعد تركه العمل في شركة الكهرباء، تم اختياره من قبل مؤسسي شركة أسمنت اليمامة ليصبح مديراً عاماً للشركة.
ولازلت أذكر جيداً إشادة سمو الأمير سلطان بن محمد مؤسس شركة المراعي حينما قابله في منزلي قبل حوالي عشر سنوات «أنا تلميذ لهذا الإنسان الفاضل، تعلمت على يديه، ونفذت توجيهاته، واستفدت من أفكاره، وأخذت بالكثير من فلسفته الإدارية».
وحينما أصبح عضواً منتدباً ورئيساً لمجلس إدارة شركة الخزف ، لم يتردد إطلاقاً بالسفر إلى ألمانيا وإيطاليا للوقوف عن كثب على العديد من مصانع الخزف هناك كمحاولة مخلصة منه لنقل بعض أو كل ما شاهده لبلادنا الغالية. وقد تمكن فعلاً وخلال رئاسته لهذه الشركة من إحداث نقلة نوعية في منتجات الشركة، كما تم العمل على توظيف وبناء مكاتب ومصانع للشركة.
وكان للفقيد دور كبير وملموس في تطوير الغرفة التجارية بالرياض، حيث تمكن مع أعضاء مجلس الإدارة من وضع العديد من السياسات والأسس المهنية والإدارية السليمة التي لازالت تؤمن بها إدارة الغرفة وتسير عليها في الوقت الحاضر.
وانسجاماً مع خبرة الفقيد ومركزه الاجتماعي، تم اختياره عضواً في مجلس إدارة البنك الهولندي (الأول)، ثم رئيساً لمجلس إدارته لدورتين متتاليتين، حيث استطاع تطوير وتعزيز إدارة البنك بكفاءات وطنية شابة قادرة على العطاء والبناء. وأثبت للعديد من المتابعين حينذاك أن رئاسة المجلس لا تورث بعد وفاة الرئيس، وإنما تأتي وتتم بترشيح الأكثر كفاءة وتأهيلاً.
«لست قطرة ماء في محيط
بل أنت محيط بأكمله
في قطرة ماءٍ واحدة»
( 5 )
يقولون ، إذا لم تسافر مع صديقك فأنت لا تعرفه بشكل جيد وعميق، ولعلي ومن تجربة متينة وطويلة أؤكد أن هذا المبدأ يعتريه الكثير من الصحة، فقد اختبرته شخصياً مع العديد من الأصدقاء والأحباب ورفاق العمر وعلى رأسهم - المغفور له بإذن الله - محمد الفريح الذي التقيت به في «مونترو» بسويسرا حيث قضينا أجمل الأوقات في أجمل المدن الصغيرة الراقية الهادئة.
تكررت الرحلات العديدة المبرمجة، وتكرر معها فتح الملفات والنوافذ والنقاشات، ورحنا مع أهلنا أو أصدقائنا نطرح ما يجري على الساحات العالمية والإقليمية والمحلية من أحداث سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية.
وكان أبو عبد الرحمن يضفي على هذه الأحاديث الكثير من معرفته وخبرته وثقافته وحسه المرهف فتكون ذات مذاق جميل ومختلف، وتحمل اشراقات ناضجة من قارئ نهم للتاريخ العربي والإسلامي وللأدب العربي بكافة أنواعه وأشكاله.
ولن أنسى رحلتين رائعتين جمعتنا معاً بدأت أولاهما من مدينة الأقصر وانتهت في مدينة أسوان في مركب في نهر النيل واستغرقت عدة أيام، وكان لهذه الرحلة مردود ثقافي ومعرفي كبير، وذكريات رائعة ولم يهز مشاعرنا أثناء هذه الرحلة ومع أول أيام عيد الأضحى المبارك إلا خبر حاقد وظالم.. أما الرحلة الرائعة الثانية فقد كانت إلى مدينة «ستريزا» الايطالية وهي مدينة صغيرة وجميلة وهادئة يعشق أبو عبد الرحمن السفر والتردد عليها من وقت لآخر، وكانت آخر رحلة للفقيد إلى أوربا.
«ما في الوداع سوى تلعثم ألسنٍ
وذهول أرواحٍ وهمٍّ مطبقِ»
(6)
يعشق الرواية والقصة والتاريخ.. وكان قبل وفاته بعدة أيام يقرأ لمرة جديدة رواية «بداية ونهاية» لنجيب محفوظ، بدأها ولم ينهها! يمتلك مكتبة فاخرة تضيق بالكتب المنتقاة, وكانت غير مفهرسة، إلا أنه استفاد من خدمات أخٍ عزيز ساعده على تبويب وفهرسة الكتب مما سهل عليه وعلينا الحصول على أي كتابٍ بسهولةٍ ويسر.
يقول الشعر..
إلا أنه مقلٌ، مقلٌ، مقلٌ..! ولم ينشر إلا ثلاث قصائد..!
يناقش بلطف وموضوعيةٍ وتهذيب.. ويستمع برغبةٍ وتقديرٍ وتواضع..
يحترم الوقت، ويديره بشكل إيجابيٍ رائع.. يرتاح كثيراً حينما يستمع للموسيقى الكلاسيكية.. ويطرب للقصيدة المغناة بصوتٍ عذبٍ وجميل.. يتابع المسلسلات بشغفٍ ومحبة.. ويتابع الأخبار العالمية والإقليمية بخوفٍ وقلق.. متفائل ويتفاءل كل يوم بالتطورات الإيجابية التي جرت وتجري في وطننا الغالي بقيادة حكومتنا الرشيدة.
« إن كل نفسٍ ذائقة الموت
إلا أن الحياة لا تتذوقها كل الأنفس»
(7)
فقدناه ، فقدناه...!
فقدنا إنساناً كبيراً، وأخاً غالياً، وصديقاً كريماً، ورفيقاً وفياً،
وسنفقد في مستقبل الأيام العديد من الأحباب.. وهذه سنة الله في خلقه..
فقدنا صديقاً كريم المشاعر، كريم التواصل، شديد الحرص على القيام بالواجب.. فقدناه ..!
وفقده عبد الرحمن، وشريكة روحه وعمره..
أدعو الله - عز وجل - أن ينهج عبد الرحمن نهجه، وأن يرفع رايته واسمه - بإذن الله - ستفتقده كثيراً زوجته الرائعة..
وصدق من أطلق على أم عبد الرحمن اسم «أميرة».. فهي «أميرة» وفاء وكرم وخلق ونكران ذات وإيثار.. ولا غرابة في ذلك، فهي من عائلة أصيلة فاضلة ونبيلة.. فأحسن الله عزاءك أم الوفاء، وعزاء عبد الرحمن, وعزاء الأهل والأحباب والأصدقاء.
رحم الله فقيدنا وأسكنه فسيح جناته ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
«من لم يذق فرقة الأحباب ثم يرى
آثارهم بعدهم ، لم يدر ما الحزنُ»
** **
- بقلم: صالح العلي العذل