د. صالح عبدالواحد
أي شخص يسمع تلك الأخبار الواردة عن قمع المتظاهرين في كندا، لا يمكن أن يصدق مستوى أزمة «الثقة بالنفس» التي تعاني منها الحكومة الكندية، حيث تقوم الآن بحملات تجويع مواطنيها بأوامر عسكرية. هذه نفس الحكومة التي كان وزراؤها بالأمس ينتقدون الدول الأخرى، حتى انتهى بهم الأمر، إلى إصدار أوامر «حقوق الإنسان» عن طريق تطبيقات التواصل الاجتماعي.
لا يأتي الانتقاد لحكومة ترودو اليوم فقط من مراقبين محايدين مثلنا، بل من جميع المواطنين الكنديين، حتى المواطنين الذين لا يوافقون على المظاهرات التي يقوم بها سائقو الشاحنات في كندا، فإنهم ينتقدون اليوم تعامُل الحكومة الطائش الذي لا يتناسب مع أبسط مبادئ حقوق الإنسان.
فبعد أن تم حرمان سائقي السيارات المتظاهرين من وسائل التدفئة، ومصادرتها خلال فصل الشتاء القارس، يتم منع وصول الماء والغذاء الضروري لحياة الإنسان، ليصل الأمر الآن إلى إعلان حالة الطوارئ! وذلك كي يتم اعتقال المتظاهرين والزج بهم في السجن من دون أي محاكمة.
ومن ضمن الإجراءات التعسفية غيرالإنسانية التي تبناها رئيس الوزراء في مخالفة صريحة للقوانين المدنية الكندية، تم تجميد الحسابات المصرفية لأي شخص أو شركة تتعاطف مع المتظاهرين؛ مما يعني وصول الضرر لشريحة كبيرة في المجتمع، بسبب تعطل أعمال الشركات التي يعملون بها، وبالتالي عدم قدرة تلك الشركات على صرف المرتبات المعيشية للموظفين لديها، ومن ثم عدم قدرة المواطنين على تسديد التزاماتهم المالية.
ولا يأبه رئيس الوزراء الكندي بالحاجة المعيشية اليومية للمواطنين الذين لم يشاركوا في المظاهرات، والذين تضرروا من جراء إيقاف حساباتهم الشخصية أو حسابات الشركات التي يعملون لديها.
ولا يأبه رئيس الوزراء الكندي بإصابات المتظاهرين الطبية بسبب درجات الحرارة المنخفضة، ولا يأبه بجوعهم وعطشهم!
وأصبحنا في حيرة من أمرنا، هل تصلنا تلك الأخبار عن قمع المتظاهرين من كندا فعلًا؟ أم من دمشق؟
هل هذه كندا التي صرح وزير الأمن القومي بها (ماركو منديتشينو) بأن أمريكا الدولة التي تملك حدوداً بطول يزيد على عشرة آلاف كيلومتر، وبينهما اتفاقيات أمنية وتجارية مشتركة، يصرح بأنها يجب ألا تتدخل في الشأن الداخلي؟!
هل هي كندا التي يقول وزير أمنها (نحن بحاجة إلى أن نكون يقظين بشأن التدخل الأجنبي المحتمل، وأن أياً كانت التصريحات التي أدلى بها بعض المسؤولين الأجانب فهي لا تعنينا، نحن كنديون، ولدينا قوانيننا التي سوف نتبعها).
هل هذه كندا الدولة الشاسعة الجميلة، التي تجاوزت عبر السنين أسوأ ما في الأزمات العالمية الكبرى، نراها تعلن اليوم حالة الطوارئ بسبب مظاهرات سلمية منذ فترة زمنية قصيرة، لعدد محدود من سائقي شاحنات النقل، في منطقة محدودة من المدينة!
حالة الطوارئ التي لا يتم الإعلان عنها إلا ضمن تهديد إرهابي أو عواصف طبيعية مدمرة، يتم الإعلان عنها كحدث غير مسبوق في نظام «الديمقراطية» الغربي، بسبب زوبعة محدودة النطاق!
ماذا كانت ستفعل حكومتك يا سيادة الرئيس لو أن عصابات إرهابية تقصف مطارات بلادك بالمسيرات من الجنوب كما يفعل الحوثيون ضد مطاراتنا؟
ماذا كنت ستفعل يا سيادة الرئيس لو اكتشفت أن عصابات المخدرات تهرب المواد السامة لبلادك محشوة في الفواكه من الشمال كما يحدث من حزب الله اللبناني في تهريب المخدرات إلى المملكة؟
ماذا ستفعل يا سيادة الرئيس لو أنك مسؤول عن ضبط أسعار النفط للحفاظ على التوازن الاقتصادي في العالم بأسره، هل ستتصرف كما هي سياسة المملكة؟
ماذا ستفعل يا سيادة الرئيس لو أن بلادك تواجه تهديدًا إرهابيًا بشكل يومي؟
ماذا كنت فاعلًا يا سيادة الرئيس لو أن أكبر دولة راعية للإرهاب تمتد على حدودك الشرقية وتدعم عصابات إرهابية شمالًا وجنوبًا منذ أربعين سنة مثلما هي إيران؟
ماذا كنت ستفعل يا سيادة الرئيس وأنت تسير ببلادك، ضمن هذا الطريق المحفوف بالمخاطر؟
هل استدعى الأمر لديك إعلان أقصى درجات التأهب العسكري بسبب مجموعة مسالمة من سائقي الشاحنات، تجمعوا في مساحة محدودة، منذ مدة بسيطة، يحملون مطالب معقولة جدًا تتعلق جميعها بحياتهم اليومية وحقوقهم المدنية؟
هل هذا أفضل ما لديك؟
هل تعتقد أن اتهام المتظاهرين (بل وجميع المعارضين لسياستك) بأنهم عنصريون متعصبون للعرق الأبيض! وأنهم نازيون! رغم وجود العديد من اليهود ضمن من وجهت الاتهام لهم، يبرر تصرفاتك غيرالإنسانية؟
هل استوعبت الآن يا سيادة الرئيس حجم العمل لدى قيادة بلادنا؟
كيف لك أن تستوعب فقط ذلك الجهد الذي تبذله حكومة المملكة العربية السعودية لتأمين الماء العذب للمواطنين، بينما كندا تملك أكبر مخزون مائي من البحيرات العذبة في العالم.
هل عرفت كيف تتعامل القيادة لدينا بكل تقدير واحترام مع حكومات العالم، رغم كل الظروف المحيطة بها؟
هل يحق لك أن تستنكر طلب حكومتنا من الجميع أن تتعامل بنفس درجة الاحترام؟
إذا كانت بلادكم الحديثة، تعمل للوصول إلى أهداف راقية مثل: المساواة، أو الحق في الملكية الفردية، أو الحرية الشخصية، أو التمتع بحق البراءة أمام القضاء إلى أن تثبت الإدانة، فإن جميع هذه المميزات المدنية المكتسبة حديثًا لديكم، تعتبر جزءاً أصيلاً في حياة المجتمع السعودي المدني في هذه الدولة التي يحرص مؤسسوها ومنذ ثلاثمائة عام على العمل بها ضمن نطاق القانون المدني الشرعي، لتصل اليوم إلى مستويات متطورة بعد أن تم تقنينها ضمن النظام الأساسي للحكم.
وإذا كانت الحكومة الكندية تمر بأزمة «ثقة بالنفس»، جعلتها تتعامل بعنجهية مفرطة، خارجيًا وداخليًا، لتغرق في شبر من المياه، فإن الأسرة الحاكمة لبلادنا المملكة العربية السعودية تتمتع «بثقة شعب» يحبها وتحبه منذ ثلاثمائة عام، تخطت خلالها جميع الصعاب الموجودة في قواميس السياسة.
لذلك فهي تتربع على إرث سياسي عريق، بعيدة كل البعد عن ذلك الغرور السياسي يا سيادة الرئيس، المكتسب حديثًا لديكم.
تنطلق بلادنا اليوم رغم وجود الأعداء المحيطين بها من كل صوب، ضمن رؤية جميلة نحو مستقبل السلام والتطور، دون أن تعير الحاقدين أي أهمية، وعليكم أن تتعلموا منها.