د.عبدالله بن موسى الطاير
إمكانات الشاشة في القنوات الإخبارية من صورة وألوان ونبرات صوت وتعبيرات وجوه صنعت من أزمة أوكرانيا مادة مشوقة تبقي المشاهد متحفزاً، ولكن بانفصام تام عن المآلات، لدرجة أن البعض يجهز الشاي أو القهوة ويتجمد أمام الشاشة وكأنه بانتظار مباراة فريقه المفضل.
ليست القنوات الإخبارية وحدها صنعت حالة الترقب هذه، فالساسة أيضاً أسهموا باجتهاد ودأب في تلقين الشاشة مادة مشهية ورسائل تزيد التشويق إثارة. وربما يكون الرئيس الروسي بطل الرسائل المصورة بدءاً بلقاء افتقد للدبلوماسية مع الرئيس ماكرون باعدت بينهما الطاولة بُعد الموقفين السياسيين؛ فجلسا على طرفي نقيض في حين كانت الأحضان دافئة في لقاء سبق بين الرئيس بوتين وضيفه رئيس وزراء كازخستان قاسم توكاييف، ولاحقاً مع رئيس بيلاروسيا ألكسندر لوكاشينكو. الرئيس الأمريكي لم يكن بعيداً عن توجيه الرسائل فعندما سأله الصحافيون هل سيهاتف بوتين، لوح بيده وأشاح بوجهه نافياً النية للمكالمة وتوجه وهو في حالة غضب إلى الحوامة الرئاسية.
بين رسائل الساسة وإمكانات الشاشة هناك حرب عالمية يمكن أن تقع، وإمكانية وقوعها ليس لأن هناك قرار اتخذ بإشعال شرارتها وإنما لأن الساسة قد هيؤوا لقدحها وتركوا للصدفة أو الخطأ المقصود إطلاق رصاصتها الأولى. ويقيني أو ربما أمنيتي أن هذه الحرب لن تحدث، إلا أن الصراخ الإعلامي بين الطرفين يشي بعاقبة أكثر تهوراً، ولكل من واشنطن وموسكو مآربهما الخاصة من حرب كهذه.
ربما يجد الرئيس الروسي الفرصة مواتية لاستغلال الوضع الداخلي الأمريكي المتأزم، وحاجة أوروبا للطاقة الروسية، والفجوة المتفاقمة بين البيت الأبيض وبعض العواصم المسيطرة على سوق النفط التي لم تخض أمريكا حرباً منذ نهاية الحرب العالمية الثانية بدون مساعدة من تلك العواصم. وفي السياق ذاته يجد الرئيس بايدن في أوكرانيا قصة نجاح مثالية يحقق بها عدة أهداف منها توحيد الأمريكيين ضد قوى «الشر» المناهضة للديموقراطية، ويؤكد أنه رئيس قوي يمكن له أن يتخذ قرار الحرب دفاعاً عن القيم الأمريكية والغربية، وبذلك ينقذ حزبه من هزيمة يعتقد أنها مؤكدة في الانتخابات النصفية في نوفمبر القادم.
ما يحصل في أوروبا جنون لا ينسجم مع العقلية «المتحضرة» التي يتم ترويجها عن الواقعية الغربية، وهو لا يختلف بحال من الأحوال عن الاستقطابات التي لطالما فجّرت الحروب في دول العالم الثالث.
شهدت هذه الأزمة تعطل البرلمانات التي تمثل الشعوب، وخفوت الصوت الدولي المفعم بـ «القلق» وتعطل مركبات المبعوثين الدوليين الذين ينتشرون مع كل أزمة في منطقة الشرق الأوسط. بل وحتى المظاهرات التي شهدتها واشنطن ولندن عشية اجتياح العراق عام 2003م لم نشهد أياً من أعلامها تملأ الشوارع الغربية احتجاجاً على حرب قد تنسف منجزات أوروبا. فجأة تحولت المكنة الإعلامية الغربية «الحرة» إلى آلات دعائية تسند المجهود الحربي وتدفع نحو المواجهة.
الذي يبقي المشاهد مدهوشاً أمام الشاشات، ومشدوداً لشبكات التواصل الاجتماعي، هو غياب المنطق في أزمة كهذه؛ فأمريكا تنذر بشر قد اقترب سوف يبتلع دولة ذات سيادة، ولكنها في الوقت ذاته تعلن أنها لن تحارب من أجل أوكرانيا، وإنما ستفرض عقوبات. لن يغيب عن الذهن المادة الـ51 من ميثاق الأمم المتحدة التي تخول أمريكا الدخول في الحرب بناء على طلب من أوكرانيا. روسيا تدرك ذلك، وتعلن صراحة أنها لا تنوي الدخول في حرب.
دعونا نخرج حالة «التشويق» الإعلامي إلى سوء المنقلب فيما لو قامت الحرب لا سمح الله. لقد فقدت أوروبا في الحرب العالمية الثانية نحو 50 مليون شخص؛ أكثر من 25 مليوناً من الاتحاد السوفييتي، بينما فقدت أمريكا أقل من 300 ألف شخص في تلك الحرب التي قدر ضحاياها بنحو 70 مليون نسمة؛ أي 2 % من سكان العالم البالغ حينها نحو 2.5 مليار، وأخذاً في الاعتبار تعدادهم الحالي بحوالي 8 مليارات إلا قليلاً، فإن الخسائر البشرية مع تطور الأسلحة الفتاكة واكتظاظ السكان قد تصل إلى مئات الملايين. يضاف إلى الخسائر البشرية الآثار الاقتصادية التي ستحرم العالم من موارد روسيا وأوكرانيا من النفط والغاز والقمح مما سيفضي إلى نتائج مدمرة على جميع الدول والشعوب.
إذا كان الغرب «العاقل» يدرك فداحة الخسائر ويدفع بالعالم نحو المواجهة، فإن له في ذلك مآرب يصعب تنقيتها من شوائب المؤامرة. ومع قتامة المشهد، وبعيداً عن المؤامرة، فإنني أنتظر معكم خروج الرئيس الأمريكي ليعلن انتهاء الأزمة بدون حرب، وسيقول حينها إن موقفه الحازم، وصلابة الناتو قد أجبرت روسيا على التراجع.