اللواء الركن م. سلامة بن هذال بن سعيدان
لا يخفى على أحد ذلك الرباط الذي يربط بين المرء وحرفته إلى درجة اقتران اسمه بها، وعلى ضوئها يتم تحديد جانب من هويته والتعريف بشخصيته، وبقدر ما يتقن المرء مهنته يرتفع شأنه، ويعلو مكانه ويصبح حديث زمانه، مما يستدعي من صاحب المهنة أن يعمل في سبيل احترافها والإلمام بها من جميع أطرافها، وقد قال عمر بن الخطاب حول هذا الموضوع: إني لأرى الرجل فيعجبني، فأقول: أله حرفة؛ فإن قالوا: لا. سقط من عيني. وقال أحدهم: مهنة جيدة خير من ميراث وفير، وقيل: من ضيَّع مهنته ضيَّع حظه.
وتتكون المهنة من مجموعة منضبطة من المنتمين إليها، وهؤلاء المنتمون يتمتعون بمعايير أخلاقية، ويمتلكون مهارات مهنية ولديهم التزام صارم تجاه المهنة.
وعلى الجانب الآخر فإن الحرفة هي كل ما اشتغل به المحترف واشتهر به، وترتبط بنوع العمل المطلوب تأديته والطريقة المتبعة لتنفيذ هذا العمل وبينها وبين المهنة اتفاق واختلاف، ومهما حصل بينهما من اختلاف فإن معنى الثانية يكون مرادفاً لمعنى الأولى، وكل منهما يهدف إلى المهارة والبراعة في العمل تحت مفهوم الاحتراف الذي يمثل شعار الإجادة في العمل والوصول به إلى أعلى مستويات التميز والإتقان.
والاحتراف يتجاوز مفهومه اللغوي إلى مفهوم أبعد وأكمل وأشمل، حيث يطلق الاحتراف على العمل الاحترافي الذي يتميز بالجودة العالية بفضل وجود المحترف الناجح صاحب القدرات المهنية والتجربة والخبرة والكفاءة والأهلية، وما يترتب على ذلك من إنجازات مهنية ذات طبيعة احترافية يتم تحقيقها عن طريق الاحتراف القائم على المعرفة والمسؤولية والانتماء وغيرها من المقومات الأخرى، وذلك كمردود طبيعي لتراكم التجارب والخبرات وصقل المواهب والمهارات.
ويعتبر المنتمي إلى المهنة محترفاً عندما يمتلك المعرفة والدراية بأبعاد وأصول ونظريات المهنة مع القدرة على التطبيقات العملية والممارسة الفعلية بدرجة متقدمة من التمكن والإبداع، وهو أمر لن يتحقق إلا عن طريق حب المهنة والإقبال عليها بشغف والتفرغ لها بالشكل الذي يجعل المنتمي إليها قادراً على سبر أغوارها ومعرفة أسرارها من خلال الجمع بين الدراسة والممارسة والنظرية والتطبيق.
والواقع أن من أحب مهنته وتفرغ لها وغاص في أعماقها وعرف فنونها وخفاياها أُتيحت له الفرص لكي يجيد الوظيفة التي يشغلها، ويتقن العمل الذي يقوم به على نحو يؤهله لامتلاك ناصية الاحتراف، متخذاً من ذلك سبيلاً إلى التحلي بعلو الهمة والصعود إلى القمة بفضل الالتزام بالمثل والقيم المهنية ومراعاة التمسك بالثوابت الاحترافية التي تؤكد مبايعة النفس للمهنة أو الوظيفة والتضحية من أجلها، وكما قال الشاعر:
العيش حبٌ لما استعصت مسالكه
تجارب المرء تدميه وتعليه
والاحتراف من ألزم اللزوميات بالنسبة للمهنة العسكرية، حيث يصعب على المؤسسة القائمة على المنتمين إلى هذه المهنة إنجاز مهمتها وأداء رسالتها في غياب الاحتراف الذي يليق بسمو المهنة وشرف أهدافها، بوصف الخدمة العسكرية ذات طبيعة مهنية خاصة تتميز عن المهن المدنية من حيث نوعية المهام المطلوبة وحجم التضحيات المبذولة التي تفرض على العسكريين بذل الغالي والنفيس في سبيل الدفاع عن الوطن وحماية الأمن الوطني والمصالح العليا للأمة.
وتأسيساً على ذلك فإن ثمة مِهَناً يغلب عليها مفهوم الاحتراف، حيث إن الواقع يقف شاهداً على أن المنتمين إلى هذه المهن يكونون أكثر فاعلية وتميزاً كلما اقتربوا من هذا المفهوم، في حين تقل فاعليتهم ويختل عملهم إذا ما ابتعدوا عن ذلك.
والضابط والطبيب والقاضي والمعلم لا غنى لأي منهم عن احتراف المهنة والإحاطة بها من جميع جوانبها، الأمر الذي يتطلب من كل منهم بذل ما بوسعه لتنمية قدراته وتطوير مهاراته عن طريق صقل مواهبه واكتساب المعارف والخبرات التي تمكنه من احتراف مهنته وتأدية وظيفته على أحسن ما يكون الأداء، وكما قال الشاعر:
شمِّر وكافِح في الحياة فهذه
دنياك دار تناحر وكفاحِ
وخض الحياة وإن تلاطم موجها
خوض البحار رياضة السباحِ
وتشكل المعرفة إحدى الركائز الأساسية لبناء الاحتراف لأن الذي يطمح إلى إتقان مهنته ورفع مستوى أدائه الوظيفي لا مندوحة أمامه من مضاعفة جهده وبذل أقصى طاقته من أجل تحصيل المعرفة الاحترافية بشقيها التخصصي والعام، إذ إن المحترف هو الذي تتوافر لديه المعرفة والمهارة في مجال تخصصه داخل المهنة، وضمن الإطار المهني الذي يؤطر الاختصاص بإطار جماعي، وذلك بفضل التعليم المتواصل والخبرة المتراكمة وكل ما من شأنه تمييز الفوارق بين المحترف الأصيل والهاوي الدخيل.