صبار عابر العنزي
الغربة هي البعد عن الوطن، والأهل والأجواء المعتادة ويتغرب الإنسان من أجل الدراسة أو كسب العيش أو ربح مادي أفضل ويطمح إلى الوصول إلى مستوى معيشي مرموق على حساب تغربه عن أهله، أو قد يغترب بشكل قسري في حالات الحروب وانعدام الاستقرار الأمني والسياسي...!
ويعرضك العيش في غربتك بالخارج لثقافة جديدة ومجموعة من العادات والتقاليد لكن الكثير من الناس يطورون هوية ثنائية الثقافة حيث يجمعون بين جوانب ثقافتهم والثقافة الأجنبية، مما يؤدي للتعرف على كلتا الثقافتين إلى تطوير أسلوب تفكير أكثر تعقيداً، ويمكّنك من عرض الأشياء من وجهات نظر مختلفة وإيجاد أرضية مشتركة بينها.
وعندما تغترب وتعيش في بلد أجنبي، قد لا تكون عائلتك معك للاعتماد عليها، وستتوجب عليك الدراسة والعمل والتواصل الاجتماعي وإدارة المهمات وتنفيذ الأعمال المنزلية كلها بنفسك، ويجعل نمط الحياة نشطاً ويمنحك الوقت للكشف عن المواهب الخفية واكتشاف إمكانات جديدة داخل نفسك.
نحن نغترب فهل هي جسد أو غربة روح، أو الاثنين معا؟!
كليهما معا!!، نعم إنها الغربة التي واجهها كل إنسان من بداية خروجه خارج حدود وطنه، وتركه لأهله، وذكرياته، وبيته، وأصحابه، ومحيطه ووطنه... الوطن وما أدراك ما الوطن، هو انتماء، وليس كما يعرفه البعض بأنه تراب أو سماء أو هواء، فكل هذه الأمور أشياء مادية محسوسة والوطن أعظم من ذلك بكثير، أعظم من هذه الماديات والمحسوسات.
من منا لم يكتو بنار حرقة بعده عن أهله وعن وطنه، من منا لم يذرف الدموع، علها تخمد ببرودتها حرقة الاشتياق حينما يشتدان بأروقة القلب، أو تذيب بحرارتها صقيع الوحشة الموحشة وسط حشد كبير من الذكريات لملامح الوجوه وروائح الأمكنة.
سيواجه المغترب ومنذ اليوم الأول تجربة وامتحانا قاسيا، مشاعر لا تترجم إلا عن طريق دموع تنهمر بسخاء، سيفاجأ بثمة كلمات تختنق بسماعه صوتا يشبه أصوات أحبته، أو يرى ملامح تشبه هيئتهم أو وجوههم، فالمشاعر واحدة عند المغتربين في أي مكان وقلائل جدا من المغتربين اختاروا غربتهم بمحض إرادتهم...!
والاغتراب الأصعب الذي يهز الذات هو شعورك بوطن وأنت تعيش في قلب الوطن الذي ولدت فيه ونشأت على حبه، وفي العادة، ينتج الاغتراب هذا حين يتحول الوطن مرتعاً لفكر ظلامي غاشم، أو حقلا ينمو الجهل فيه ويتكاثر كالطحالب أما الغربة فهي إحساس الإنسان بالحنين إلى الوطن بعد أن يكون قد هجر الوطن بسبب الحاجة أو القمع، حاملا صورته في مخيلتك على شكل ملامح جمالية، وحكايات حب طفولية، وذكريات حلوة ومرة تأبى النسيان.
والغربةُ هي أن تفقد حديثَ من تحب وتهوى, وقد يكون على مسافة أمتار منك, الغربة أن ترى حلمك وطموحاتك تنهار أمامك وأنت غير قادر على فعل شيء.
الغربة حمل وثقل كبير على كتفك تسير به وأنت غير مدرك أين ومتى ستضع هذا الثقل ولا يشعر به إلا من تغرب وغاب عن أهله وأصحابه.
فالشعور بالغربة جزء من تكوينك النفسي تشعرك وكأنك ممزق بين ذكرياتك وطفولتك البريئة وبعد مرور السنين تجد نفسك حملا على أحلامك وطموحاتك وأمنياتك وتصدمك الحقيقة لتتساءل.
«أين أشيائي؟
أين ذكرياتي؟»
لقد اكتويت بنار الغربة..
وتلملم ذكرياتك وسني عمرك داخل الحقائب وترحل ثم تعود لتدخل بإرادتك داخل الدائرة اللا متناهية وتنشغل بالعمل والجد والاجتهاد على أمل العودة لعشك ولحضن الأحباب بعد فترة غياب, لعل وعسى أن تجد الأمور أفضل مما تركتها قبل سنين مضت, يعود المغترب فرحا إلى وطنه وأهله وأحبابه بعد سنوات طويلة من الغربة والاشتياق، لكن يفاجأ أنه عاد من غربة بعيدة إلى غربة داخل وطنه وبين عائلته.
عاد لناس لم يشاركهم ولسنوات طويلة أفراحهم ولا مناسباتهم ولا أزماتهم ولا أحزانهم ولا نجاحاتهم عاد غريب حتى عن أقرب المقربين «أبنائه» الذين لم يروه إلا زائرًا عابرًا مرة بالسنة, هنا فقط يشعر المغترب بخطأ حساباته، ويتأمل كل المتغيرات حوله، ويعود بذاكرته لسنوات طويلة مضت ويتذكر وجوها غيبها الموت لم يمهله الزمن حتى فرصة وداعهم ويسأل نفسه: هل كان الأمر يستحق؟ هل تعوضني الأموال التي جمعتها ما فاتني من سنوات عمري.