صدر، مؤخَّراً، للقاصِّ السعودي، محمد منصور الشقحاء، عن دار «بسمة»، في المغرب العربي، كتاب «النُّور الأزرق»؛ وهو كما يعرِّفه كاتبه «مختارات، أضمومة قصة قصيرة، قصيدة نثر».
«أضمومة» تعني، لغويَّاً، «جماعة من الأشياء»، وفي ما يتعلًّق بالكتابة، تعني «حزمة من الكتب»، ما يفيد أنَّ هذا الكتاب يتضمَّن «حزمة «من الكتب، وليس كتاباً واحداً، وهذا مانجده لدى قراءته، فهو يحتوي قصصاً تتنوَّع بين طويلة وقصيرة وقصيرة جدَّاً ( ق. ق. ج. )، ونصوصاً سُمِّيت على صفحة الغلاف قصائد نثر ؛ وهي، في معظمها، في الحقيقة، أقرب إلى أن تكون نصوصاً ذات بنية سردية، تختلف عن النصوص القصصية الأخرى، في الأضمومة، بقصر عباراتها، وتوزيعها أسطراً قصيرة على الصفحة، واتِّصافها بانزياحات تركيبية وبلاغية، وبُعدها عن تأثير العربية المحكية، وهو - أي هذا التأثير - ما نلحظ فاعليَّته في القصص الأخرى، مايفسِّر وفرة الأخطاء اللغوية في هذه القصص، وغياب علامات الترقيم.
في مايتعلق بتصنيف تلك النصوص قصائد نثر، يمكن القول : قصيدة النثر مصطلح أطلقه «تجمع شعر» (خصوصاً أدونيس ثم أنسي الحاج) ترجمةً لما سمَّته الناقدة الفرنسية، سوزان برنار، Poeme en prose، في الشعر الفرنسي. ثم شاع هذا المصطلح، وصار يُطلقه الكثيرون على كل كتابة أدبية تتحرَّر من أيِّ نظام شعري: نظام الشطرين أو نظام التفعيلة . وهذا تصنيف غير صحيح، إذ إن لقصيدة النثر مفهومها، واستناداً إلى هذا المفهوم لم تعدّ خالدة السعيد نصوص محمد الماغوط قصائد نثر ؛ ذلك أنَّ قصيدة النثر هي نصٌّ نثري أدبي متميِّز بلغته الشعرية المكثَّفة ووحدته العضوية، ويُقصد إلى إحكام بنائه، أي يُقصَّد النثر كما يُقصَّد الشعر، ويجوَّد، لينطق برؤية كلِّيَّة إلى العالم ... .
تفيد قراءة هذه الأضمومة أنَّ عنوانها: «النُّور الأزرق» علامة دالَّة على العالم الذي تصدر عنه، لترى إليه، وتكشفه من منظورها / مراَتها. ولتكن القصة التي تحمل هذا العنوان الأنموذج الدال على مانذهب إليه، بوصفها اللحظة المهمَّة التي التقطها القاصُّ من هذا العالم للدلالة على واقعه المعيش.
في هذه القصة، يريد «هو»، بعد موت والديه، أن يهدم بيت الأسرة، ليبني مكانه عمارة، فيكتشف، بعد قراءة يوميَّات ومشاهدة صور وبحث، أنَّه ابن رجل اَخر ...، فماذا يفعل ليعود السكون إلى أعماقه؟ يقول الراوي: «... وأخذ دفتر اليوميات والصور وأشعل موقد المطبخ وتابعها وهي تتحول إلى رماد ليعود السكون إلى أعماقه» (ص. 80).
تكشف هذه القصة الواقع المعيش المتمثِّل في ثنائية تضادّ، طرفها الأوَّل، الظاهر، أسرة تحيا حياة عادية، رجل يعمل ويورث من يعتقد أنهم أبناؤه، وأم تظهر عفيفة مخلصة، وطرفها الثاني، المخفي، والحقيقي، هو أنَّ الأم خائنة: «كانت الأنثى الشغوف بالأحداث» ( ص. 75 )، والزوج الذي أعطى الأبناء اسمه وورَّثهم «زوج مخدوع»، والأولاد هم أبناء رجل اَخر. معرفة حقيقة هذا الواقع تدمِّر، فما العمل؟
في الأسطورة القديمة، دمَّرت معرفة الحقيقة «أوديب» وعالمه. وفي الواقع المعيش المعاصر، تُحرَق الحقيقة، ويُشعل الحريق «النور الأزرق»، وهو دخان الحقيقة / المعرفة المحروقة. في فضاء هذا النور / الدخان تختفي الحقيقة / المعرفة، تحت ستار الزيف، ويعود السكون إلى أعماق هذا العالم، ويستمر عيش الحريق.
هذا العالم نفسه، تمثله النصوص الأخرى، المسمَّاة قصائد نثر ، ففي نص «قانا «، على سبيل المثال، نشاهد، في حركة أولى، مشهدين: أوَّلهما دم أطفال قانا، وثانيهما دم خروف العيد الذي تريد القوى التي أسالت دم الأطفال إشغال العالم به، وفي الحركة الثانية نشاهد كذلك مشهدين: أوَّلهما المواطن المدمَّى الراكض باكياً، وثانيهما جنود الأمم المتحدة الذين يتبادلون النكات والسجائر، ويتتبَّعون طائرات الموت في سماء الجنوب، في حين أنَّ واجبهم هو حماية الناس من هذه الطائرات، فهم يُلغون أعينهم التي ترى الحقيقة في ضوء الشمس الساطع، وتُركَّب لهم أعين أخرى، يعميها النور الأزرق المشكِّل واقع عالمها .
هذا هو العالم، على المستويين: المحلِّي والعالمي، وفيه تشعل طائرات الموت «النور الأزرق»، كما أشعل حريق الحقيقة ووأد معرفتها، هذا النور نفسه، فماذا يفعل الرائي إلى عالم هذا النور / العتمة؟
في نصٍّ عنوانه «غسق»، مؤرَّخ في صباح يوم الجمعة 19/ 11/ 2021، ما يعني أنَّه نصٌّ حديث يفصح عن رؤية الكاتب التي تبلورت بعد عيش تجربة طويلة وغنيَّة، نقرأ: «هذا هو، اليوم، أجمع روحي الممزَّقة، وجسدي المنهك، في كلمات أثرثر فيها مع نفسي لأقاوم» (ص. 186).
الغسق، هو أول ظلمة الليل، وغسق الليل: اشتدَّت ظلمته، وغسقت العين: دمعت، وأظلمت، والغسق هو الأسود من الحيَّات . قد نقول: الغسق هو تسمية أخرى لما يدلُّ عليه «النور الأزرق».
في مقاومة هذا العالم شديد الظلمة تدمع العين وتظلم، وتخشى الحيَّات السود المختفية، لكنها ترى وتكشف. «يثرثر» القاصُّ بما تكشفه عينه الرائية، ليقاوم . أي أنَّه يصوِّب مراَته لترى مايخفيه الظلام، فيكتبه قصصاٌ.
هذا العالم من الصعب إمساكه، فيعاين القاصُّ، من منظوره، أحداث الحياة اليومية العادية، ويلتقط اللحظة المهمة الدالَّة منها ، ويرويها، بلغة سردية سهلة تقرب من اللغة المحكية، في سياق قصصي موضوعي، سريع الإيقاع، شخصياته في الغالب ضمائر، وأمكنته أسماء مراجع توهم بصدقية القصِّ، وزمنه ممتدٌّ، يطول في بعض القصص سنوات، ويعتمد، في الغالب، تقنية التلخيص، كما في هذا الاقتباس: «أخي لم يعد وانقطع اتصاله أمي لفظت أنفاسها أختي أغرتني بالزواج من شقيقة زوجها المعلمة العانس ولأجد بعد مغرب يوم ...» (ص. 16)، وتنتهي، القصة، أحياناً، بمفاجأة، كما في قصة «الحجل»، على سبيل المثال: يعرفها، تزوجت، سافرت مع زوجها إلى أمريكا، عادت، عاشرها، غابت، ثم جاءت تفاجئه: أنا أرملة (ص. 13)، كأنها تدعوه إليها.
أما القصص القصيرة جدًّاً، فمحدودة عدد الكلمات، فإحداها لايزيد عدد كلماتها على الأربع عشرة كلمة، وتمثل حالة نَهَمه وتَيْهها وفقده: «التهم كل الأشياء الصغيرة التي صنعتها، ومعها عشقها، ولما تلفت حوله لم يجدها» ( ص. 34).
تجري أحداث هذه القصص، في مدينة تسابق الزمن بنموِّها الاقتصادي والعمراني (ص.77)، وكلُّ العاملين فيها وافدون من شرق اَسيا (ص .78 )، وفي جميع بيوتها عاملات منزليات وسائقو سيارات يترك لهم الأزواج الغائبون، والمسافرون، إيصال الزوجات حتى إلى المصعد الذي يرعبهن (ص. 100)، فيُصعد السائق إحداهن إليه، والى غرفتها، ويكون، كما تقول: «عامود / عمود / النور، وكنت أنا الأنثى التي وجدت ذاتها الضائعة في الشقة الثامنة عشر / عشرة /» ( ص. 86). وتأتي أخرى إلى المقهى، كما يقول منتظرها: «وألوان ملابسها التي تدل على ذائقة راقية تشعر من يجلس أمامها بسهولة إقناعها برغبته في معاشرتها» (ص. 119).
في عالم الغسق / النور الأزرق، يتمثل الفقد في فقد «الذات»، ويكون من البدهي التسابق في السعي إلى إيجاد «عمود نور» يضيء، فيعثر الإنسان: المرء والمرأة على مايفقده، وهو «ذاته»، فيسعى إلى تحقيقها.
وان كان الكاتب، كما مرَّ بنا، يحقق ذاته بالكتابة، فانَّ لكل إنسان طريقه إلى العثور على ذاته وتحقيقها.
تتعدَّد الطرق، في هذا العالم ، إلى الذات، وإمساك «التائهة»، والعثور على «الضائعة»، وتحقيقها.
وهذا مانلحظه في الغلاف، فهو صورة تنطق مباشرة بالدلالة: امرأة تنظر مزمومة الشفتين، مسدلة الشعر على الجبهة وجانبي الرأس، كأنها تبحث عما تفقده.
ويمكن أن نقرأ بعض القصص، على سبيل النمذجة، لنتبيَّن هذه الطرق.
ففي قصة «السماء»، على سبيل المثال، يحضر «هو»، ولنلاحظ هنا، أن الشخصيات، في كثير من القصص ضمائر، ويترك للقصِّ بناء شخصياتهم، يحضر قبل درس «النخبة»، ليحظى بخيال يكشف تفاصيل جسدها، والمفارقة أنَّ هذا الدرس كان عن «أخلاق الرسول»، فإذا كانت «النخبة» هكذا، فما هو شأن الاَخرين ؟!، و«هي»، تعرف مايريد، فتوظِّف رغبته فيها، وتتسوَّق من متجره، هي ورفيقتها، لعلمها بأنه لن يأخذ ثمن ماتشتريانه، وزوجها «رجل علم شرعي»، وأستاذ جامعي، يُفسخ عقده بسبب انتمائه ونشاطه السياسيَّين، فيعود باسم اَخر، وبعقد جديد، وتعود هي إلى متجره ... الظاهر، في هذا العالم : درس ديني، والمخفي الحقيقي شيء اَخر: جسد امرأة، مشتريات، نشاط سياسي / عسكري. الجميع يصطاد، ولكلٍّ شبكته التي يصطاد بها في عالم النورالأزرق ... .
وفي قصة «الكمال»، تتنازل «المرأة التائهة الطموح» عن الأسرة (ص. 20)، وفي قصتي «جهنم»، و«انفصال»، تتنازل المرأة كذلك عن الأسرة والأولاد والوطن، لتحقق طموحها، وتبني شخصيتها . يقول الراوي: «دمرت حياة أسرتها، وبنت شخصيتها الوهمية» (ص. 41 ) ، ويقول: «أصبحت ببشرتها السمراء عضو هيئة تدريس» ( ص. 38 ) ، ويصنع الرجل الصنيع نفسه، فيحقق لها طموحها، وتحقق له متعته.
وفي قصص أخرى، تقول امرأة: «أشعر فقط بأني جافة بسبب فراغ عشته ثلاثين عام / عاماً /» ( ص. 67 )، فتسعى إلى من يفجِّر ينابيعها . وتقول : «وهو يفجِّر ينابيعي، ويحرث أرضي، ويكتشف تفاصيل جسدي. كنت الحالة اللدنة التي أعاد صياغتها، وتكوين جسمها» (ص. 91).
في هذا العالم، «الأنا «تسعى إلى أن تكون، وتقول: «ومازلت فوضى لم أتمكن / من / جمعها، حتى أكون أنا . أقف على رصيف مطار، قال بوَّابه: رحلتك أُلغيت» (ص. 190). فماذا يفعل من تُلغى رحلته في عالم الغسق، عالم النور الأزرق، سوى السعي إلى اقتناص طرق توصله إلى جمع فوضاه، وتفجير ينابيعه، وتكوين أناه؟!
** **
- د. عبد المجيد زراقط