محمد جبر الحربي
لكن كل ذلك ليس كافياً، لا الطبيعة ولا القراءة، لا السفر في المعارف، ولا السفر في الأوطان، فلا شك أن المواقف والأحداث والتجارب هي التي ترسم مشروع الشاعر في النهاية، ومن ذلك الحروب والفقد: فقد الأحباب، وفقد العواصم والأوطان، وانكسارات الأماني والأحلام، وأحيانًا الغربة الداخلية أو الخارجية، وأحياناً أخرى الضياع.. الضياع:
أرجو الضياعَ وأستريحُ لهُ
يا ويلَ دربٍ لا يُضَيِّعُنِي
ولولا الضياعُ النزاريُّ هذا، وهو لا يعني هنا الضلال، بقدر ما يعني الغرق في الجمال، جمال المعارف والسفر والدهشة في اختلاف العواصم والمدن، والتجريب المتكرر في دروب الحياة، الضياع في الملامح والوجوه، في ثراء التجارب الإنسانية محلياً وعربياً وعالميًا.
هي رحلةٌ لا بد منها، عبر الطبيعةِ، أم عبر المعارفِ وخيال الكتب وعوالمها الثرية المختلفة، وهو ضياع مُحَبَّب، حتى عودة المراكبِ الخشبيةِ للموانئ، والوصول بالعمرِ والعقل إلى محطةِ الرشد..!
سعادة الدهشة في البحث الذي يكون أحياناً مصحوباً بالخسارات والمخاطر والفقر، ولكن لم لا..؟!
فأيُّ إبداعٍ مختلفٍ يتحقق ويتميز بلا غربةٍ أو ضياعٍ أو جنون..؟!
أيُّ إبداعٍ بلا تضحياتٍ وثمن..؟!
ولكن هذا لا ينفي أبداً أنه قد يكون مصحوباً بالانتصارات والأفراح والغنى.
وفي الوقتِ نفسه أيُّ إبداعٍ بلا إيمانٍ وعقلٍ ويقين..؟!
ولولا الرحلةُ والتأملُ لما كان أيٌّ من ذلك.
والخشبُ رفيق خيالنا وإدراكنا منذ قراءاتنا للقصص القرآني: سفينةُ نوح، وكرسي سليمان وقصته العجيبة الغريبة: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ} (34) سورة ص، ومنسأةُ سليمان، والمنسأةُ العصا الطويلة: {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ} (14) سورة سبأ، وعصا موسى، وكذلك تابوت موسى: {وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلآئِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} (248) سورة البقرة، إلى السفينةِ التي خرقها الخِضْر في قصته مع موسى.
عوالمُ ساحرةٌ مدهشة.
أما الأشجارُ صاحبةُ السعادةِ والموائدِ والأوكسيجين والظلال، فحتى في موتها حياة..
وموتها حياةُ الخشب، وحياةُ البشر، منذ آدمَ، ونوحٍ وسفينتِهِ، إلى قواربِ وسفنِ الصيد والغوصِ، والقرصنةِ كذلك، وطلائعُ الاستكشافِ والاستعمار.. وحتى السفن العملاقة والأساطيل والغواصات والمدمرات حيث الحديد والنووي والنفايات السامة وكل ما يهدم الطبيعة والحياة.. الدول والمدن والبشر.. البشر..!
ألم أقل:
لِلشَّجَرةِ مِثُلكِ يَا سَلْمَى شَفَتَانْ.
وَلَهَا..
قَلْبٌ وَضَمِيرٌ وَيَدَانْ.
وَالشَّجَرَةُ تَدْعُو اللهَ وَتَمْشِي فَلَهَا قَدَمَانْ.
تُعْطِي هَذَا، وَتُظَلِّلُ ذَاكْ.
فِيمَا يُحْرِقُ بِالْحَرْبِ الْكَوْنَ الْإِنْسَانْ..!
فأنا عاشقٌ كبير للأشجار: دولها وسلالاتها: أوَليستِ الغابةُ دولةً متوازنة..؟!
وكذلك رعاياها من الطير والكائنات والتربة والمياه والظلال، ومن البشر الذين ساعدتهم على التنفس، وأطعمتهم وظللتهم وبنت بيوتهم وأدفأتهم، فكافأوها بالقطع والحرق.. والتصفيات الجماعية.. أليس في هيروشيما، أو فيتنام، أو العراق أمثلة داميةٌ على ذلك..؟!
وأنا أتحدث هنا، إضافةً للحروب، عن التوسع الجائر على حساب الطبيعة والأشجار، وعن تدمير الطبيعة بشكل مرعب، عن استيلاء الشركات العابرة للحدود على الموارد، وعن تهاون الدول في سن قوانين الحماية، وفي حماية الأرض، وإعادة زراعة ما دمر، في إيجاد توازن في الطبيعة، يتساوى في ذلك التقدم والتخلف أيضاً، كما في قتل البشر.
والله خلق كل شيءٍ بوزنٍ، وأتى الإنسانُ فدمر بجشعه الميزان.
ولعل في تجريف التربة الفلسطينية، واجتثاث الأشجار، ومنها أشجار الزيتون على يد الإسرائيليين، مثالٌ على كفرِ الإنسان، وبشاعة الاحتلال، بحق الأرض، وأهلِ الأرض.
ومن العجيب أنه في ختام حياة الأجساد الفانية يحضر الخشب الذي كان السكنَ ككفنٍ لدى المسيحيين، والإشكناز من اليهود الغربيين، يتفننون في صنعه حسب غناهم وفقرهم، فنشأت دور الدفن الفخمة، وهم يعلمون أنهم من ترابٍ إلى تراب (Dust to Dust)، أما نحن المسلمون فندفن في الأرض كأنها عودة للتراب الذي خلقنا منه في دورة كاملة، كذلك يهود المشرق.
والخشبُ رديفٌ وحليفٌ للإبداع والمبدعين عبر الزمن، نراه في تراثنا، وإبداعنا العربي إلى اليوم، كما هو كذلك في العالم أجمع، يقول بابلو نيرودا في قصيدته «فليستيقظ الحطاب» مخاطباً إبراهام لينكلون كرمز لأمريكا Abraham Lincoln وهو رئيس الولايات المُتحدة الأمريكية السادس عشر، ارتبط اسمه بإنهاء العبودية، وحماية الولايات المتحدة الأمريكية من التفكك أثناء الحرب الأهلية:
«لا كان شيء من هذا وليستيقظ الحطاب.
ليأتِ إبراهام بفأسه وإنائه الخشبي
فيأكل مع القرويين..
وليدخل الصيدليات ليشتري،
وليركب الأوتوبيس إلى تامبا،
وليقضم تفاحة صفراء،
وليدخل إلى السينما،
وليتحدث إلى الناسِ السذَّجِ البسطاء
ليستيقظ الحطاب
لتطلَّ الأخوة والمساواة..
ليطلَّ السلام
السلام للأحياءِ جميعاً،
السلام لكل أمواهِ الأرض
وبلادِ الله»
الحطاب والشجر والخشب إذاً: البساطةُ والتواضعُ والمساواةُ والسلام.
وحتى تكتملَ اللوحةُ لا بد لها من إطارٍ يناسبها ويزينها وينقلها من المراسمِ إلى الصالوناتِ والمتاحف وجدران القصور والبيوت، رغم كراهية المبدعين الشديدة للتأطيرِ والأطر..!