ثمة جدار غير مرئي بين الممثلين على المسرح وبين الجمهور في القاعة، وهو ما يشير إليه مصطلح الجدار الرابع في فن المسرح، وهذا الجدار يُفترض أنه يحجب الرؤية للممثل؛ فلا يجب أن يرى الجمهور أثناء اندماجه في التمثيل، وفي تقمص الدور، وهو اتفاق غير معلن ولكنه متفق عليه بين الاثنين، ويستطيع الجمهور أن يروا كل شيء على المسرح من خلال هذا الجدار الرابع.
وفيما بعد ظهر مفهوم (كسر الجدار الرابع)، ويُقصد به خرق الاتفاقية الوهمية بين الممثلين والجمهور؛ فبعض الممثلين يدخل إلى خشبة المسرح من القاعة وليس من غرفة الكواليس كما هو متعارف عليه، وبعضهم يتحدث مباشرة مع الجمهور، وبعضهم يخرج عن النص ويذكر أن هذه مسرحية ليس إلا ويكون ذلك على سبيل الإضحاك وخلق أجواء تفاعلية مع جمهوره.
وثمة جدار رابع ـ مُتفق عليه أيضاً ـ بين الناس والناس؛ فالناس لا يحبون أن يَرى منهم الآخرون إلا الصورة المسرحية التي يرغبون في رؤيتها؛ والبيوت أسرار ـ كما يقولون ـ والناس عورات، ولكل إنسان ما يُخفيه.
وهذا الجدار الرابع يكون أيضاً بين الإنسان ونفسه ـ وهذا هو أصعبها على الإطلاق ـ، إذا يفشل الإنسان في التصالح مع نفسه، والتعايش مع طبيعته على حقيقتها؛ فهو لا يرى نفسه، أو لا يرغب أن يراها كذلك؛ وهذا يُفضي ـ بكل أسف ـ إلى الهرب من الذات عبر تغييب العقل مؤقتاً باستخدام المخدرات أو الكحول أو الانتحار ووضع حد لحياة تكشفت حُجُبها، وبانت حقيقتُها خلف هذا الجدار الوهمي.
ويُوجد ـ عادةً ـ بين الناس نقبٌ (فتحة) في الجدار الرابع بينهما، وبقدر اتساع هذا النقب تكون صراحة الإنسان ووضوحه وتصالحه مع من حوله، والناس أمام هذا النقب ينقسمون إلى قسمين؛ بعضهم يكشف سيرته الذاتية، بل ويلجأ كثير من الأدباء والعلماء إلى نشر يومياتهم وكتابة سيرتهم الشخصية وهم أحياء، وترتقي أهمية ما يكتبون بحسب صدقهم وصراحتهم وكشفهم المستور الذي يرغب الناس بمعرفته خلف الجُدر، وبعضهم لا شجاعة لديه فهو يوصي بنشر سيرته بعد وفاته؛ لأنه لا قِبَلَ له بنقد الجمهور للحقائق والمعلومات الشخصية الواردة في سيرته.
أعتقد جازماً أن أعظم الشخصيات في العالم هي التي استطاعت كسر هذا الجدار الرابع بينها وبين ذاتها أولاً، فهي ترى بوضوح مكنوناتها وقدراتها ومواهبها؛ فتحولت بمرور الوقت إلى شخصيات (كارزموية) مؤثرة، وتأثيرها بقي حتى بعد موتها؛ فالكاريزما لا تموت بموت صاحبها.
ويأتي في الدرجة الثانية الشخصيات التي حطمت هذا الجدار الرابع بينها وبين المجتمع؛ فهي شخصيات قدمت خدماتها لمجتمعها، وكانت على درجة عالية من الشفافية والصدق والوضوح مما جعل تأثيرها الإيجابي ملموساً وبارزاً.
حطموا ـ ما استطعتم إلى ذلك سبيلاً ـ هذا الجدار الرابع؛ ورغم أن الناس لا يحبون أن يروا الحقيقة عارية؛ فيعمدون إلى تغطيتها بثياب ساترة، ولكن لا عليكم؛ فمن أجل حياة إيجابية حطموا جدرانكم الوهمية بمعول الصدق، وتأكدوا أن بعض الهدم بناء.
** **
- منيف الضوِّي