أحد رجال ألمع ورُجال القرية العسيرية التي ضمتها لقائمة مواقع (التراث العالمي) منظمة (اليونيسكو) التابعة للأمم المتحدة، المسؤولة عن تحديد وحماية الثقافة والتراث في العالم. وإحدى أبرز الوجهات السياحية في بلادنا، امتاز أهلها بالضيافة، والثقافة، إضافة لما مازت قريتهم به من تصاميم لمبانيها الفارهة؛ ضّاربة الجذور (الأرض والإنسان). ضيفنا أحد رجال ألمع والتاريخ والثقافة، راوي «ضعيف الله وفتوى» وله في القصة «قفص الإنسان، الناس، إيقاعات العبور، تهاويل، فخاخ الواقع» الروائي واللقاص الأستاذ (عيسى مشعوف الألمعي).
يقول الألمعي: للكتب ذاكرة من حديد لا تصدأ ولا تبلى مع أفول العمر، وبأن (الجزيرة الثقافية)، تدق ناقوس الذاكرة لكي تروي ما بذاكرتها سيرة حياتنا مع الكتب ومعاناة المؤلف وسحر الكتب الذي لا ينفع معه تعاويذ..
ويضيف ضيفنا أنه لم يكن مغرمًا بالقراءة، غير أنه استعار من مكتبة مدرسته الابتدائية الظاهر بيبرس «كوكو والثعلب « و»الذئب والنعجة» كونها أول عناوين وقع بصره عليها، فقرأها؛ أما سبب ذلك فقد أوضحه في قوله «لأنه لم يكن هناك اهتمامات أخرى غير ما يفرض علينا قراءته».
* استعرت كتابًا فوجدته تالفًا تحت خزان المياه الحديدي
وفي مستهل حوارنا قال القاص والروائي (عيسى مشعوف الألمعي): لم اشتر أي رواية أو مجموعة قصصية في بداية مشواري الأدبي، لعدم وجود مكتبات في منطقتي، ولظروفي المادية حينذاك؛ بل كنت استعير من زميلي المثقف مجلات مثل «العربي»
فيما ما زلت أتذكر أول كتاب استعرته كان «العبرات والنظرات» للمنفلوطي، من مكتبة صَديق ليّ، وأضعته، بحثت عنه فوجدته قد وُضِعَ تحت خزان ماء من الحديد وقد تلف، لقد خجلت من نفسي ومن صديقي الذي يقدر ويحترم الكتاب أيما احترام، لقد تعلمت درسًا قاسياً بقي معي إلى الآن وهو المحافظة على أي كتاب استعيره وكيف أحترم الكتاب.
* مجموعتي «سلق بيض» كنت أقدح من راسي
وأضاف: فيما كان أول كتاب ألفته مجموعة قصصية «قفص الإنسان» طبعته في مصر، كنت فرحاً بهذا المنجز، وكيف ما تفق، لم يكن يعنيني أن يكون مختلفاً وفيه إبداع، ولا أخفي عليك طبعت تلك المجموعة سلق بيض، حتى يقال إنني أديب وحصل ذلك، لم تنضج تجربتي بعد، ومع ذلك كان صدى المجموعة جيداً..
لا تزال معاناة التأليف صعبة والطباعة أصعب، بالنسبة لي، حيث لم يكن يتوفر لدي حاسب آلي، كنت أكتبها بيدي، وكثيراً ما كنت أكتب مسودات وأمزقها.
كنت مغرما بالقراءة في مرحلة المتوسطة، كنت «أقدح من رأسي» فلم أتذكر أن أحداً من مُعلّمي شَجّعني على القراءة الحُرّة غير قراءة كتاب الله والحديث، ولا أحد من أهلي شجعني على القراءة والثقافة بعد أن تفتّق ذهني و»أزكيت» بمعنى عقُلت!
تلك الحقبة خلت رفوف المكتبات من الكتب الأدبية والروايات والقصص العالمية، كانت من الكتب المعيب قراتها أنداك، صفصفة الكلام كان عنوان المشهد عند الكثير، وكثيرا ما نصحوني بأن أهتم بالمفيد من وجهة نظرهم.
وتابع: يُقال إن الأدب مهنة الفقراء.. وهي مقولة للواقعي في الحياة وأيضا للمادي، لكني كنت أجمع الدر من الكتب ولم ألتفت للمثبطين، مع صعوبة الاختيار مع هذا الكم من الكتب، ولكني مع نضوج التجربة جمعت الكم والكيف.
وقال يصف حالة (التشظي) واللحظات التي شعر بها أن الكاتب قد نجح في سيطرته: ليس هناك تشظي بالمعنى، بل هناك تفاعل داخلي بين الكتاب والقارئ تفاهم وتجانس اعتمال روحي، للكتاب كاريزما خاصة تجعلك محلقا في الخيال الواقعي، فكثيرًا ما كنت وما زلت أعتبر الكتب خير صديق وجليس رغم التضحيات التي دفعتها ثمناً لذلك الحب.
وتابع الألمعي مستعرضًا ما تحمله الذاكرة المشفوعة بزخم التجربة القرائية، بعض عناوين الكتب التي شكلت بدورها تأثيرًا بارزًا في صياغة تجربته الإبداعية وبعض مفاهيم حياته: هناك كتب تبقى في الذاكرة بعد كتاب الله، ألا وهي روايات العباقرة من أدباء روسيا وأوروبا، مثل: الشيخ والبحر لإرنست همنجواي، ومئة عام من العزلة لغابرييل غارسيا ماركيز، ووداعاً للسلاح والبؤساء والأمير الصغير والجريمة النائمة والحديقة السرية وأوليفر تويست وشيفرة دافنشي.. وغيرها الكثير، هذه الروايات التي أنصح النشء بقراءتها لأنها سوف تبقى عالقة في الذاكرة.
وعن رحلته في جمع الكتب وأبرز المواقف أو الصعوبات التي واجهته في الحصول على بعضها قال: أصبح جمع الكتب سهلاً وميسرًا مع الانفتاح وبعد حضور معارض الكتاب في كل عام، وأصبح الكتاب الإلكتروني محل اهتمام وله زبائنه، ولو أني كائن ورقي ومن جيل الورق، وكما يقال أن رائحة الورق لها عنفواناً خاصاً.
* «ضعيف الله» مَثَل جنوبي
وفي معرض إجابته على سؤال «تجربة الإصدار الأول، والظروف المصاحبة لذلك المُؤلّف» بين مشعوف: ألفت ست مجموعات قصصية وروايتين، تم طباعتها في نادي أبها الأدبي وفي دور في لبنان ومصر، طبعت في الانتشار العربي وطوى وفي دار النابغة، كانت متفاوتة في الحضور، لم أوفق في اختيار عناوينها من وجهة نظري، ولأن معاناة المؤلف مع اختيار العنوان مشكلة أزلية فأنني ضمن هذا الحشد من المؤلفين الذي يصعب علي اختيار العنوان الذي يثير القارئ ويقنعني، باستثناء عنوان لروايتي الأولى «ضعيف الله» وهو محاكاة لمثل من الجنوب، يدل على ضعف الإنسان أمام الله، وتم لبس عند بعض القراء حول العنوان.
وزاد: للكتب الورقية بهجة خاصة لا يعلمها إلا القراء، والمغرمين بالكتب، ولها بريق خاص عندما تشاهدها فوق رفوف المعارض وفي مكتبتك الخاصة، وهناك مشاعر متبادلة بين الكتاب والقارئ يجعلهما في توافق تام، بعض الكتب ليس فيها إلا العنوان البرّاق والمغري وليس بعده شيء وبعضها من الغلاف إلى الغلاف يأسرك بلهفة حتى النهاية، وبعض الكتب المنزلة بين المنزلتين له وعليه..
يقول أليسون هوفر بارتليت: إنها متعة بصرية، الطريقة التي تبدو بها الكتب وهي متراصة على الصف.
كتاب سيئ السمعة
واجهت صعوبة في شراء بعض الكتب رغم أني تلهفت عليها ولكن ربما غلاء أسعارها أو لعدم وجودها محلياً، أو لمنعها من التداول، مثل «شمس المعارف»عرفت بعد ذلك أن هذا الكتاب سيئ السمعة!
أتذكر موقف موجع عندما أعدت طباعة رواية لي أسمها «فتوى» في دار طوى، ودفعت الأجر مرتين، طبعة لم تكن منقحة ووقع فيها أخطاء، اضطرت إلى إعادة طبعتها وتغيير غلافها، ودفعت ثمن ذلك مرة أخرى.
(ذاكرة الكتب) لا تذبل.. الفضل للمدينة والجزيرة
قبل توديع ضيفنا، وإزجاء الشكر الأوفر الأجزل له، المطوّق بأكاليل الودّ والورد؛ عرفانًا للعيسى ومداده المشعوف، وتطويقًا لروحه السّخيّة الألمعية؛ وعلى طيب استجابته دعوة (ذاكرة الكتب) أشار ضيفنا بدوره إلى فضل الصحافة وتحديدًا الأدبية منها وقال: لقد كانت الملاحق الثقافية سبّاقة في نشر قصصي ومقالاتي، ولها فضل بعد الله على كثير من الكتّاب، مثل ملحق جريدة المدينة الثقافي، وملحق (الجزيرة الثقافية)، إذ لها فضل بعد الله، على كثير من الكتّاب. وأضاف: (ذاكرة الكتب) لا تذبل، ولا يصيبها الفتور وهذا مع يميز القراء بأن لهم مع الكتب تناغم عجيب وحياة طويلة ومغامرات شيقة وموجعة.
يقول ميلان كونديرا: فهي لم تكن تملك، في مقابلة عالم التفاهة الّذي يحيط بها، إلا سلاحاً واحداً: الكُتب!
** **
- محمد هليل الرويلي