منذ العتبة الأولى لديوانه الصادر عن الدار العربية للعلوم ناشرون قبل خمس سنوات يضعنا الشاعر عبدالله مفتاح أمام مساءلة الحضور والغياب، حيث تتراءى العوالم والأعلام وراء حجاب شفيف من الأسئلة التي لا تمس حضورًا حتى يلفه الغياب، ولا تلامس غيابًا حتى تستدنيه فيحضر، بحيث ينتهي الأمر وقد سكنت التجربة الشعرية لديه في برزخ تموج فيه الكائنات، فيبدو بعضها، ويغيب بعضها الآخر، ثم لا يبرأ حضور من غياب وغياب من حضور.
«تلك التي لا تجيء» عنوان الديوان وعتبته الأولى، واسم الإشارة «تلك» يدير أعناقنا إليها، نبحث عنها حيث تشير سبابة الشاعر فتلتبس علينا الرؤية، تلك الممعنة في غيابها فلا تحمل وعدًا بمجيء محتمل يجلو عنها الغياب، تحضر حيث تنتهي الإشارة، وتغيب حيثما ينتهي النظر، تاركة لنا ظلالا من المعنى يلفه غموض شفيف ثم لا ندري، إذا ما ذهبنا للاستعانة بقصائد الديوان لعلنا نتعرف إليه، هل تلك هي غادة القلب التي هتف بها:
غادة القلب... حروفي تعب
واشتهاء الوقت يطوي سلّمي
هاك أشلائي فما عاد بها
ما يذيق الجرح طعم الألم
والأشلاء هي حضور الجسد وغيابه، ما تبقى منه في هذه الأشلاء يحيل إلى ما ذهب منه، الأشلاء إشارة إلى ما ذهب من الجسد ثم لا يعود بعد ذهابه، الأشلاء إشارة إلى تلك الأجزاء «التي لا تجيء»
أم تلك التي لا تجيء هي الرؤيا التي لا تلوح إلا لحظة الغياب:
لم تكُ الرؤيا بمنأى حينما
عربد الكأس وأومى لفمي
أم لعلها تلك الأرواح التي تلوح في أطلال «القصار» فيجثو على طينها:
أجثو على طين البيوت لربما
تحنو عليّ، تعيدني لترابي
والبيوت لم تعد بيوتًا، عادت طينًا كما كانت في البدء، غياب طينها حضور للأصل الذي كانت عليه كما هو حضور للمصير الذي انتهت إليه، حضور للغائب وغياب للحاضر، وذلك كله يحرض الذات الشاعرة أن تستحضر أصلها الذي كانت عليه فتعود للتراب ثانية، وهي بذلك تتماهى في طين البيوت حتى يذوبا في كيان واحد لا يتمايز بعضه عن بعضه.
أم هي الذات التي تمزقت ذاتين وافترقتا فبات صاحبهما يسافر من واحدة إلى أخرى متكبدًا في سبيل ذلك عناء الرحيل ومشقة الغوص:
أسافر نحوي وما من صخب
أغوص لعمقي.. فأندى شغب
والسفر إلى الذات يحمل الرغبة في التواصل معها واستعادتها، وهو تجسيد لحالة الاغتراب، تلك الحالة التي تباعد بين الذات وحقيقتها حين تنخرط فيما هو اجتماعي وثقافي واقتصادي من مشاغل الحياة اليومية ثم تكتشف بعد ذلك أنها قد أصبحت على مسافة سفر مما هو أقرب لحقيقتها وما كان ينبغي لها أن تكون عليه، حالة الاغتراب هذه تجسد الحضور والغياب معًا، الحضور للذات باعتبارها ذاتا اجتماعية وعضوًا فاعلا في الوسط الذي تعيش فيه، ولكنه حضور يكرس غياب حقيقة هذه الذات في تفردها وخصوصيتها التي تميزها عن كل ما حولها.
كل تلك وغيرها احتمالات لتلك التي تشير إليها سبابة اسم الإشارة «تلك»، تلك الممعنة في غيابها فلا تجيء، والممعنة في حضورها لا تكاد تنجو منها كائنات الديوان الشعرية.
* * *
في الإهداء يستحضر الشاعر والده ووالدته، وفي ثنايا ذلك الإهداء يستحضر إخوته كذلك حين تفصح عنهم كلمة الابن الأوسط، يستحضرهم جميعًا، لكي يعلن من خلالهم غيابًا آخر يتراءى في سؤاله لأمه (كم عمري يا حبيبة؟)، وغياب العمر ليس غيابا لسنوات مرت منه، وإنما هو غياب لما مر به من تجارب وما عاشه من فرح وحزن، أو هو حضور لذلك كله ولكنه الحضور الذي لا تحيط به سنوات العمر ويشتعل منه السؤال: كم عمري إذًا إذا كنتُ قد عشت وعايشت ذلك كله؟
وتعزز كلمة والده الشاعر إبراهيم مفتاح التي تصدرت الديوان متاهات الحضور والغياب:
(اسمي إبراهيم عبدالله مفتاح
اسمك عبدالله إبراهيم مفتاح
أردت أن تكون امتدادًا لاسم جدك فغدوت إشكالً ا للآخرين...)
وبهذا تغدو الأسماء التي اتخذها إبراهيم مفتاح عنوانًا لكلمته «أسامينا» سببًا في الغياب بدل أن تكون غاية ما يمكن أن يتم تعريف المرء به حين يدعى باسمه واسم والده، تصبح الأسماء أمرًا إشكاليا يلتبس معه التمييز بين الجد والابن والحفيد، ولكنه في الوقت نفسه يخلق سلسلة من الجينات الشعرية يتصل بعضها ببعض (حسبي زهوًا بك أنك حملتنا- أنا وجدك- جينات في خلايا شعرك).
القصيدة الأولى حملت عنوان «رسالة بيضاء»، وبياض الرسالة تأجيل لمعناها، الرسالة تحضر باعتبارها رسالة، غير أنها تغيب؛ لأنها بيضاء لا توجد بها كلمات يمكن لها أن تجعل منها رسالة قابلة للقراءة، فهي مثلها مثل تلك التي لا تجيء، تحضر لتؤكد غيابها وتغيب لكنها تبقى حاضرة.
القصار، تلك القرية التي كانت آهلة بالأسلاف أصبحت موطنا آهلا بالذكريات، يستعيدهم الشاعر في موال الجد وشاله وتنهده وقدحه المعتق بالحكايات، فيكون حضور الذكريات تكريس لغياب أصحابها، مثلها مثل تلك ال بئر التي «كانت هناك» منبعا للماء فأصبحت مهوى للأسرار القديمة، القصار مثلها مثل أشلاء الجسد، ما تبقى منها يستحضر ما غاب، يستحضر ما لا يجيء، الحضور هنا إمعان في الغياب، وضع له على محك الوعي به، تذكير دائم به، القصار التي حوّلها أهل فرسان إلى قرية تراثية تتحول إلى جرح قديم ينزف دائمًا بالذكريات التي لا تغيب، قرية القصار بئر تفيض بأصوات من غابوا من الآباء والأجداد القدامى.
ولنا بعد ذلك أن نذهب إلى أن الغياب هو مفتوح الحضور لقراءة تجربة الشاعر عبدالله مفتاح، الغياب الذي يتراءى في موضوعات قصائده، وفي صوره الشعرية ومجازات لغته، أنه سر الأبجدية الجديدة التي يحاول كتابتها:
يعيد تسمية الحروف بـ «أبجد» أخرى
يذيب معالم الأشياء
يكتب
يستعيد
يبدد اللثغات
يمحو
ثم يكتب
ثم ينسخ
يستجد
فيخلق المعنى
والمعنى هنا ليس أكثر من احتمالات يتناوبها الحضور والغياب، وتغري بالتأويل تغري قارئ النص بالغوص فيه وتقليب معانيه، الاستغراق حد المتاهة التي لا يعرف قارئ النص بعدها أين ينتهي غياب النص وأين يبدأ تأويله لهذا الغياب، وعندها يكتشف أن المسافة تضيق بين القارئ والنص حتى يغدو كلٌّ منهما منتج للآخر فيما الشاعر يبحث عن نصوص أخرى يستدني بها الغياب وقارئ آخر لا يعرف أين تبدأ أنامله وأين ينتهي النص، تلك التي لا تجيء، تعود ثانية لتغري في احتمالات أن تكون تلك التي لا تجيء إنما هي القراءة التي تقبض على المعنى وتقف سدًا أمام احتمالات التأويل، تلك هي القراءة التي لا تجيء ما دام الشعر فياضًا بالمعاني واحتمالات التأويل.
** **
د. مستورة العرابي - شاعرة وناقدة