د.محمد بن عبدالرحمن البشر
كنت أبحث عن التمازج بين القبائل الليبية والأمة المصرية التي كانت تعيش على ضفاف نهر النيل في نهاية الألف الأول قبل الميلاد، وبداية الألف الثاني، وفي تلك الفترة كان النبي سليمان عليه السلام يحكم في فلسطين، بينما كان يحكم مصر شرق الدلتا الشمالي الفرعون (شيشنق) الذي ينتمي لإحدى القبائل الليبية، وفي الجهة الغربية من الدلتا قبيلة ليبية أخرى، أما في الجنوب فإنها أيضاً تحكم من قبيلة ليبية كانت مستقرة هناك منذ مئات السنين، وإن كان الفرعون واحداً، وهو (شيشنق) وكان الجميع يعترفون به، إلا أن التماسك بين جهات مصر في ذلك الوقت ليس تماسكاً متيناً، كما كان الحال عليه فيما سبق، عندما كانت الأسر المصرية تحكم مصر، والأدهى من ذلك أن حكام المدن الذين يتم تعيينهم من قِبل أقاربهم ليبيي الأصل، يرون أنفسهم مستقلين عن من عينهم، ولهذا فهم يتصرفون وكأن كل واحد منهم له إماراته المستقلة، وكأننا نشاهد دول المدن، مثل التي كانت سائدة في اليونان، وجبال سوريا.
لقد بدأ هؤلاء الأمراء المحليون يرون أنفسهم بين الأهالي مصريي الأصل كسادة فيما يفعلونه، وكأنما يديرون إمارات أو إقطاعات مستقلة وخاصة بهم، وفي ذات الوقت يمنحون ولاء شفهياً لفرعون مصر في الشمال، لكن تصرفاتهم تظهر أنهم كانوا يرون أنفسهم مستقلين، حيث يظهر ذلك في كتابة أسمائهم على بعض الخراطيش التي كانت مقتصرة على الحكام والأمراء التابعين للفرعون التي كانت متروكة خالية من أصحابها الأصليين، وأقاموا مباني تخليداً لأسمائهم، والتزين بأزياء معينة كانت في العادة مقصورة على الأمراء والحكام الفراعنة الأصليين في ذلك الوقت، ولا يحق لغيرهم أن يماثلهم في اللبس، كما بلغ بهؤلاء الحكام والأمراء تبني أساطير ملكية، فأخذوا يتحدثون عن أساطير ملكية لها علاقة مع الآلة، ورسم الآلهة لأقدارهم.
في ظل هذه الظروف القاسية الصعبة بالنسبة للمصريين الأصليين، وما يرونه ظلماً، واستبداداً، وقهراً، وسلباً لحقوقهم وكرامتهم، كان الناس في ذلك الوقت تبحث عمن يعطيهم الثقة في النفس، فاتجهت الطبقة الأرستقراطية السابقة إلى الكهنوت، تمنح نفسها من خلاله قيمة اجتماعية مسلوبة، ولا شك أن ذلك لم يقتصر على عائلة واحدة، وإنما أصبح هناك عوائل متعددة، ربما يكون لها سيد معين، والآخرون مجموعة من الكهنة الذين احتلوا مراتب، إما متوسطة أو صغيرة، والجميع حرصوا على وظائفهم ورواتبهم الخاصة، وأيضاً على توريثها للأجيال اللاحقة، وحاولوا جاهدين أن يظهروا تاريخ اتصالهم وارتباطهم بالملكية المصرية الغابرة، ظناً منهم أن ذلك الرابط سوف يمنحهم المكانة التي ينشدونها، وإن كانت أقل بكثير مما كانت عليه في السابق، لكن الغريق يبحث عن أي شيء يتعلق به، ولجؤوا أيضاً إلى تمجيد أنفسهم برسم شجرة النسب العريق كمصدر لدعم وضعهم في المجتمع، وضمنوها نقوشهم، وكتاباتهم، وتماثيلهم، ووضعوها طويلة لتبين عراقتهم المزعومة، ومكانتهم المميزة، التي لا يمكن أن يمحوها الدهر حتى وإن جار في فترات معينة.
أما الأفراد العاديون فقد حرصوا على أن يعيشوا في قراهم، وأن يمكثوا ما استطاعوا في بيوتهم إلا للضرورة القصوى، ولا يتجولون في الخارج، خشية المخاطر، لهذا فإنهم يؤثرون الانطواء على النفس، طلباً للحماية والاستقرار، وهذا ما أوحت وتوحي به النفس البشرية في ذلك الزمان وفي كل الأزمان، فطلب الأمان، والخوف من المستقبل، يجعل المرء ينكفئ على نفسه، ويحاول ما استطاع أن يقضي حاجته بأساليب يكاد أن يكون فيها وحيداً إن استطاع ذلك، ولا شك أن التشاكي هو السائد لدى المصريين الأصليين في ذلك الوقت، حيث يجتمع الأفراد ويتحدثون عن ماضيهم الاجتماعي الخالد، وما كانوا ينعمون به من رخاء بائد، ويستعرضون وضعهم الاجتماعي والحالي البائس السائد، الذي ليس لهم حول ولا قوة لتغييره.
وبرزت نصوص الحكمة المتعلقة في الشكوك الريفية الفلاحية تجاه الغرباء، ومنها تلك التي تقول: (لا تنزل في ناحية لا أقارب لك فيها)، (لا تدع ابنك يتخذ زوجة لنفسه من قرية أخرى)، (خذ حذرك دائماً من المرأة الغريبة)، (لا تبح بكل ما في قلبك للغريب)، (إله المدينة هو الذي تعتمد عليه حياة وممات أهلها)، (من لا يعبد إلهاً مصرياً يسلم نفسه للعدو).
عندما تدلهم السماء بالغيوم، ويطول الأسى ويدوم، ترجع النفس البشرية إلى ما يبعث السعادة في ذاتها، فتستعرض المآثر، مثل الوضع الاجتماعي الغابر، وشجرة العائلة وغيرها من صنوف المفاخر، بما فيها العلم والثقافة، ولاسيما إذا نقطع الأمل، وأصبح الاكتئاب محتملاً، وسارت النفس في رحلة طويلة من الخوف واليأس لكن سر السعادة في الثقة واليقين بالله والتوكل عليه، وكفى.