د. عبدالحق عزوزي
أصدر المعهد الملكي للدراسات الإستراتيجية بالمغرب تقريرًا علميًا إستراتيجيًا ومتميزًا عن عالم ما بعد كوفيد 19؛ والمعهد يديره الأستاذ توفيق ملين، وهو واحد من الخبراء المغاربة المشهود لهم بالكفاءة وبعد النظر ونكران الذات، وعودنا دائما بإصدار دراسات إستراتيجية دقيقة تصلح لتبلور في سياسات عمومية هادفة وفي مجالات متعددة. والتقرير الاستراتيجي الأخير هو واحد من شجرة التقارير المعطاءة، ولكن هاته المرة فإن التقرير يتناول جانباً من الجوانب المهمة لأنه يتعلق بعالم ما بعد كورونا وهو سيكون مختلفاً تمام الاختلاف عن عالم ما قبل كورونا، وأضم صوتي إلى كل المتفائلين الذين يقولون بأن الجائحة يجب أن تدفع الجميع إلى رؤية الأزمة والكارثة كفرصة حقيقية يمكن الاستفادة منها.
فالجائحة جعلت وتجعل كل الدول تضع إستراتيجيات لتسريع الاستثمارات العامّة في مجالي الصحة والبنى التحتية ... فصحة البشر هي واحدة من الأولويات التي لا يمكن تجاوزها ولا وضعها في سياسات عمومية ثانوية؛ كما أن الرصد المبكر للأمراض المعدية وللأوبئة وللجوائح ستكون من بين أولويات المرحلة خاصة إذا علمنا من تقرير أصدرته لجنة مستقلة للاستعداد للجوائح والاستجابة لها أنه كان بإمكان العالم تجنب جائحة كوفيد-19، إلا أن «مزيجا ساما» من التردد وسوء التنسيق حال دون رؤية مؤشرات الخطر. وأفادت اللجنة المستقلة للاستعداد للجوائح والاستجابة لها أن منظمة الصحة العالمية كان ينبغي أن تعلن حالة الطوارئ الصحية في وقت أبكر، مشيرة إلى أن هذا الأمر كان يجب أن يحدث خلال الاجتماع الأول للجنة الطوارئ في منظمة الصحة العالمية في 22 كانون الثاني - يناير..
كما أن صحّة البيئة ستوازي صحّة البشر أهميّة وما يعني ذلك من التعامل الجاد مع التغير المناخي والقضاء على المخاطر التي تحدق بدول العالم من عواصف تزداد عتواً، وحرائق غابات متسعة، وفيضانات وموجات جفاف وهي كلها مرتبطة بتغير المناخ إضافة إلى تلوث الهواء نتيجة حرق الوقود الأحفوري؛ فسيكون هناك «نهج حكومي شامل» في اغلب دول العالم، بل وستكون في قلب أمنها القومي وتخطيطها الداخلي؛ ولهذا أشار الأستاذ توفيق ملين في مقدمة التقرير إلى عاملي «الإنسان» و»الطبيعة» كأحد محددي المرحلة المقبلة والتي يجب الاستثمار فيهما بطريقة عقلانية وذكية صوناً لحياة الأجيال المقبلة وللسطيحة التي نعيش عليها.
كما أن الروبوتات ستصبح منتشرة في كلّ مكان، سيما أنها اليوم مستخدمة في كلّ القطاعات كأعمال التوصيل وإجراء فحوصات «كوفيد - 19» والخدمات الآلية وحتّى في المنازل؛ كما أنّ الخدمات الطبية الهاتفية باقية وستنتشر أكثر. ويقيني أيضاً أن العديد من الأعمال ستشهد تحولاً في هياكلها إلى الصيغة الرقمية، وأن قسماً كبيراً من التجارة والتفاعل والقوى العاملة سينتقل إلى العالم الرقمي أيضا.
كما أن الطاقات البديلة ستكون موضة العالم المقبل؛ فالتقارير تشير إلى أن 27 دولة من الاتحاد الأوروبي تمكنت من إنتاج ما تحتاجه من الكهرباء بنسبة 40 % من الطاقة البديلة المتمثلة في طاقتي الرياح والشمس، لتتجاوز بذلك ما تم إنتاجه من الطاقة الأحفورية. كما أن قطاع النقل، على سبيل المثال، ممثلاً بصناعة السيارات والطائرات، ستعرف تغيراً كاملاً في المستقبل القريب مع دخول السيارات والطائرات الكهربائية على الخط، وهو ما سيكون له تأثيرات هائلة على قطاع النقل، والطاقة، والخدمات.
وفي جانب التعليم، سيتغير هذا القطاع بشكل جذري وللأبد، وستكون الدول ملزمة بالنهوض بسياسات تعليمية جديدة، وتحويل بيئات التعلّم، وبناء قدرات المعلمين، وتمكين الشباب وتعبئتهم واتخاذ الإجراءات في المجتمعات، ومتابعة تقدمهم، وحصول الأجيال الجديدة على المعرفة والمهارات اللازمة لتعزيز التنمية المستدامة، من خلال التعليم من أجل التنمية المستدامة وأنماط الحياة المستدامة وحقوق الإنسان والمساواة بين الجنسين، وتعزيز ثقافة السلام، والمواطنة العالمية، وتقدير التنوع الثقافي ومساهمة الثقافة في التنمية المستدامة وغيرها من المسلمات التي تبني مجتمعا عالميا قادرا على استيعاب الجميع وتحقيق التنمية. كما أن الدول ستبني استراتيجيات تأخذ بعين الاعتبار وظائف المستقبل في الزمن الرقمي وعصر الروبوتات والذكاء الاصطناعي والطاقة البديلة والأوبئة والجوائح .... فهنا يجب أن يتغير كل شيء في جامعاتنا وبالأخص العربية منها للتخطيط لسوق العمل في ظل وجود عدد هائل من الخريجين الذين تضعهم جامعاتنا ومعاهدنا سنوياً للأسف في سوق عمل لا يستوعبهم ...