الهادي التليلي
الحديث عن الترفيه هو في كل أحواله حديث عن الإنسان هذا المفرد بصيغة المتعدد على حد تعبير أدونيس فالترفيه الذي يعنى بالإنسان في جوانبه الأهم جوانب المعنى والقيمة ليس خارجاً عن مدار النظر للإنسان على أنه رقم في معادلة إذا ما أعدنا نمذجته فالترفيه يملأ المساحة التي تحقق له قيمته المضافة في هذا الوجود الشاسع مترامي الأطراف الإنسان الذي تراه بعض العلوم والمجالات مجرد رقم وكميات هو أكثر من ذلك بكثير فالإنسان جوهر ومعنى إنه سردية مختلفة عن سائر معادلات العلوم الصحيحة لأنه ليس قالب سكر في صندوق مغلق أو قطعة دومينو ثابتة أو جزيئة ليغو مسطر لها ما قبل وما بعد وحتى الحياة العسكرية للأفراد تنتمي دائماً للعبة الجد والهزل والجوانب الترفيهية التي ارتقت إلى علم كامل التفاصيل أطلق عليه «علم الترفيه العسكري» كأحد فروع علوم الاجتماع العسكري وهنا تحضرنا مؤلفات أحمد إبراهيم خضر وإحسان محمد الحسن وحتى عادل يوسف أبوغنيمة وإن كان توجه الأخير نفسياً أكثر مما هو سوسيولوجي فحياة الجيوش مفعمة بالترفيه لأن المنتمي للسلك مهما كانت رتبته هو قبل كل شيء إنسان.
نفس الشيء بالنسبة للقطاعات التي تبرز للوهلة الأولى أنها الأكثر جدية والأكثر صرامة وأن ممتهنيها من طينة حديدية لا بشرية ونعني مجتمع القضاة وهنا يكفي إلى النظر في المدونة العربية والاهتمام بأسمار القضاة وطرائف مجالسهم وهنا يحضرنا مؤلف أبو عمر محمد بن يوسف الكندي الذي تعرض لطرائف القضاة وحياتهم الشخصية المختلفة تماماً عن الواجهة الخارجية الجافة وهي حياة مليئة بالترفيه والمرح وفي زمننا المعاصر يعد كتاب «نوادر المحامين والقضاة «لصاحبه نزيه شلالا من أكثر الكتب تقص لا فقط نوادر داخل قاعات المحاكم ولكن في الحياة الخاصة وجوانب الترفيه التي تكسر الروتين القاتل الذي يعاني منه أصحاب هذه المهن والحاجة إلى الترفيه يمكن حصرها منهجياً في سبب بسيط وواضح إنهم بشر وعالم البشر هو عالم الحياة وعالم المعنى عالم لا يمكن أن يحبس في بوتقة ضيقة.
الإنسان أوسع من المعنى والتشيؤ إنه أعمق من كل ذلك بكثير فالإنسان في مجال عمله يحتاج إلى ترفيه وارتباط الرغبة بالحاجة مسألة مهمة والإنسان وهو نائم هو في لحظة ترفيه سيكولوجية إنه في عالم الحلم والاسترخاء البيولوجي فتراه أحياناً يعيد سرد ما رآه في المنام بمتعة وفرح وتفاؤل وأحياناً بحزن وقلق وتشاؤم كمن يخرج من قاعة سينما بعد مشاهدة أحد الأفلام المؤثرة سواء بالسلب أو بالإيجاب.
وحتى عند الأئمة والفقهاء فقد كانت الدعابة والمجالس الحوارية والسجالية ذات بعد ترفيهي خالص إضافة للبعد المعرفي بل حتى في لحظة النبوة الأولى فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم لا يفوت الفرصة سواء مع الصحابة أو أهله إلا ويضفي البسمة ويستحضر الدعابة وحتى مع الجميع ولعل ما رواه الترمذي من حادثة فيها الكثير من المعاني والدلالات على أن الترفيه جوهر الحياة المجتمعية حيث روى «كان النبي صلى الله عليه وسلم يداعب أصحابه ويقابلهم بالابتسامة وكان لا يقول إلا حقاً وإن كان مازحاً. وفي يوم من الأيام جاءت امرأة عجوز من الصحابيات إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت له: يا رسول الله ادع الله أن يدخلني الجنة، فداعبها صلى الله عليه وسلم قائلاً: إن الجنة لا تدخلها عجوز، فانصرفت العجوز باكية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للحاضرين: أخبروها أنها لا تدخلها وهي عجوز، إن الله تعالى يقول {إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاء فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا} أي إنها حين تدخل الجنة سيعيد الله إليها شبابها وجمالها».
فالترفيه كما قلنا ونقول هو الإنسان ولا قيمة لترفيه لا يمس الإنسان ولا يرفهه لأنه في تلك الحالة كما الفيلم الموضوع في خزانة مغلقة بسبعة مفاتيح لا جدوى منها لأنها لم تمس الإنسان ولم تؤثر فيه فالترفيه ملتصق بالإنسان في كل الأدبيات والسرديات والأيديولوجيات.
والمعادلة متبادلة الدلالة حيث كما أنه لا مجال للحديث عن الترفيه خارج دائرة الإنسان - وإن كان علماء الطبيعة لا يرون الأمر كذلك حيث يعتبرون الحاجة الترفيهية مسألة تمس كذلك الحيوانات ويستشهدون برقصات الخيل وأثر الموسيقى حتى في النباتات ونموها - فإنه كذلك لا مجال للحديث عن الإنسان خارج مدار الترفيه لأن الإنسان كائن يتنفس الترفيه.