سليمان الجاسر الحربش
فقدنا يوم الخميس الماضي العاشر من شهر فبراير، الأديب والمعلم ورجل الأعمال الصديق محمد الفريح صاحب الخميسية المعروفة في منزله في حي الربوة، رحمه الله وأمطر على قبره شآبيب رحمته.
أنا لا تربطني بالفقيد أي علاقة عمل، فأنا لم أشتغل بالتعليم ولا بالتجارة، وإنما ربطتني به رابطة من نوع خاص.
عرفت المرحوم قبل أن نتعارف بعشرات السنين.
كنا في مطلع الخمسينيات الميلادية صبية صغاراً بالمرحلة الابتدائية في مدرسة الرس السعودية، كانت قرائحنا بكراً تلتهم كل ما يقع فيها من جديد، وكان الناس حديثي عهد بحرب فلسطين، ولم أعرف ماذا تعني هذه الحرب!، سألت والدي -رحمه الله- فعلمت منه أنه في تلك السنة التي أدخلني فيها المدرسة، وقعت أكبر نكبة في تاريخ العرب الحديث، والتي من جرائها -كما قال والدي- فقد مئات الطلاب في مثل سني بيوتهم ومدارسهم وملاعبهم في فلسطين، حسبنا الله ونعم الوكيل.
في تلك الفترة مطلع الخمسينيات، وقع في أيدينا نسخة من كتاب مصور عن حرب فلسطين، تبادلته الأيدي واطلع عليه كل من يحسن القراءة، كان أهم ما لفت الانتباه في الكتاب صور عدد من الضباط والجنود ممن جاهدوا أو استشهدوا في الحرب، ومن بينهم نفر من أهالي الرس، وكنت ممن احتفى بذلك الكتاب، وأذكر أنه ضم إلى جانب الصور بعض المقالات والقصائد التي تبكي ما فقدناه في تلك الحرب.
أذكر في الكتاب على يمين القارئ، قصيدة تتصدرها صورة شاب يرتدي بدلة أنيقة، ونظارة سوداء، وقصيدة تفيض حماسة وبلاغة، مطلعها لا أنساه:
الأرض سكرى والخلائق نوم
والشر يفتك في البلاد ويظلم
مطلع جميل تتوافر فيه شروط الخليل ابن أحمد الفراهيدي، ويكفي درساً لمن يريد أن يعرف كيف تؤتى القصيدة، وكان الشاعر هو المرحوم محمد الفريح.
عشرات السنين مرت قبل أن ألتقي به، وأصبح أحد أصدقائه، وعندما التقينا جمعت بيننا بضاعة لا تروج إلا عند قلة من الناس.
لقد جمعتني بالفقيد هواية الأدب والفن والشعر، كنا زوجتي وأنا عندما نزورهم خارج يوم الخميس، نقضي أمتع الأوقات في نقاش عن الشعراء الذين أحَبّهم مثل: شوقي، وناجي، وعلي محمود طه، وأحمد فتحي، وكان يحتفظ بتسجيلات راقية لقصائدهم الخالدة مثل: كليوبترا، والكرنك، والجندول، والأطلال، وكان -رحمه الله- يجد متعة خاصة عندما يحاول أن يتذكر من هو مؤلف قصيدة مثل النهر الخالد، أو عندما يأتي المساء وغيرها من روائع النغم.
وإلى جانب هذه الخصال الحميدة التي تنقّي الوجدان وتطهر القلب، كان مجمعاً لمكارم الأخلاق، كان صادق النية، سامياً في أخلاقه، أصيلاً في تفكيره، متواضعاً في نقاشه، مراجعاً لنفسه عندما يكتشف أن الصواب إلى جانب من يطارحه الفكرة.
كان يقدس الكلمة الصادقة، ويرى أنها مفتاح التفاهم بين الأمم، وكان محباً للشعر الجيد المبني على صدق العاطفة وبلاغة القول، وكان ينأى بنفسه عن الكلام الساقط نثراً أو شعراً.
في آخر خميس استقبل فيه رواد منزله العامر، اقتربت منه وقلت له إن الدكتور صلاح فضل أستاذ الأدب العربي في جامعة عين شمس، أصدر كتاباً بعنوان “صدى الذاكرة”، أرسل لي نسخة منه، وفي الكتاب يروي أن طه حسين كان يبدي اهتماماً خاصاً بسهير القلماوي تلميذته، وعندما ذكرت اسم الدكتورة سهير انفرجت أسارير أبي عبدالرحمن وانتشى ورفع رأسه، وقال بصوت لم تكدره الكمامة: سهير أستاذتي في كلية الآداب، أرسل لي نسخة من الكتاب، وعندما عدت إلى منزلي، هاتفني معقباً على رغبته وقد لبيتها، وقبيل وفاته بأيام هاتفته وكان في جعبتي بعض ما كان يروق له من طُرَفٍ، لكنه لم يكن النديم الذي عهدته، كان صوته يخبو في مسمعي رويداً رويداً، لم ألتقط منه إلا تلك الكلمة التي لا تخطئها الأذن، وقد لازمته في ختام حديثه على الهاتف: تسلم تسلم تسلم.
وأنا أقول تسلمي يا سيدتي أم عبدالرحمن يا رمز الوفاء والحب والإخلاص لمن كان جديراً بكل هذه القيم الجميلة، وتسلم يا عميد الأسرة الجديد عبدالرحمن بن محمد الفريح، يا خير خلف لأعز سلف، رحم الله الفقيد، وجعله ممن خاطبتهم الآيات الكريمة في سورة الكهف: {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا}. ومن أصدق من الله حديثاً.