حسن اليمني
العالم يتطلع ويريد الخروج من التاريخ والغاية حيثما انتهى إليه صراع الحضارات الذي سيّد الحضارة الغربية بصفات الكمال والقوة على العالم، وهكذا بحسب زعمهم انتهى صراع الحضارات، هذا قد يصح بالنظرة المادية المحسوسة صحيح فلا توجد اليوم قوة تفوق قوة الغرب وإن ظهر المنافس إلا أنه أيضاً بذات النظرة المادية مستبعدين تمامًا القوة الروحية للإنسان وأثر هذه القوة الغيبية في مواجهة القوة المرئية.
المؤشرات والمعطيات واضحة ومعلنة فالغرب هو المنتصر في الحربين العالميتين الأولى والثانية وهم سادة العالم حتى اليوم، ومن الطبيعي أن المنتصر سعى دوماً للخروج من التاريخ منذ خطة (مارشال) الاقتصادية في أوروبا مرورًا طبعًا بالرأسمالية وشرعية أو ديمقراطية (الكاوبوي) الأمريكية، الصين في الشرق والقادمة لسيادة العالم تسعى اليوم لسيادة العالم بالاقتصاد دون التدخل في الشؤون الداخلية للدول التي لا تتطلع لما هو خارج حدودها كديمقراطية شيوعية عليا في حكم العالم.
إن ما بين التحضر والتمدن مثل ما بين الروح والجسد، فالقوة الجسدية الموجودة في الإنسان والحيوان تقف عاجزة أمام قوة الإيمان الغيبية الراسخة في النفس والعقل، وإذا كانت الرصاصة والقنبلة والصاروخ في الأثر ذات نتيجة واحدة وهي القتل فإن الاعتقاد لا يزيله إلا اعتقاد آخر أعمق وأمضى منه في الأثر، ودام أن التحضر يختص في أثره في النفس والفكر والسلوك فإن التمدن شكل ومجسّد أصم قابل للاستخدام بفعل خارج عنه وليس منه فالمجسّد شكل بلا روح أو إرادة.
إن الحضارة الغربية في عصرنا الحاضر ليست إلا مدنية لا تحضّر فيها إلا برتوش غلافية تؤصلها القوة المادية وتنفيها الفعلية السلوكية المنافية للقيم والعرف الإنساني حتى وإن ألبست الدعاية الإعلامية الفعل الإجرامي لباس التحضر بوصفه بالخطأ أو التجاوز رغم تكراره إلى حد أنه أي الفعل الإجرامي الذي شهدناه من بريطانيا في فلسطين والهند ومن فرنسا في الجزائر ومن أمريكا في فيتنام وأفغانستان والعراق ومن روسيا في الشيشان وأفغانستان وسوريا كرؤوس أقلام لجرائم متعددة لا تحصى خلال المئة عام المنصرمة فقط - أقول - إن هذه الأفعال جرائم ضد التحضّر المزعوم بل هو نتيجة التقدم والتطور في صناعة أسلحة الموت لتحقيق مكاسب مادية تحقق التقدم المدني لا الحضاري، وبالمناسبة نتذكر قوم عاد التي لم يخلق مثلها في البلاد وقد أصبحت آثاراً تاريخية وهو حال كل تقدم مدني لا حضارة فكرية وروحية فيها وكذلك مملكة النبي سليمان عليه الصلاة والسلام التي استخدمت الجن والإنس والطير والهواء ولم يتبق منها شيء اليوم.
الواقع أن لا خروج من التاريخ ولا نهاية لصراع الحضارات لكن لحصر المقال في ساعتنا العربية الإسلامية الراهنة هناك أمران بارزان جديران بالملاحظة، ظهرا في بداية القرن العشرين ونهايته، وهما ظهور الكيان الإسرائيلي ثم ظهور الإسلام فوبيا، وليس المهم البحث في علاقة ما بينهما من عدمه لكن المهم بحث معاني ظهورهما وغاياته، وكون أننا نعيش اليوم في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين فإننا ونحن نقرأ الاحتمالات بناء على واقع شهدنا ظهوره وعشنا عصره ونتابع أحداثه وتطورها عبر هذه السنين التي تجاوزت في الأولى - وجود إسرائيل - أكثر من سبعين عاماً وتجاوزت الثانية - شيطنة الإسلام أو الإسلام فوبيا - أربعين عاماً منها عشرون عاماً في الخفاء وعشرون عاماً على السطح، حيث اعتمد الكونغرس الأمريكي دراسة الباحث الأكاديمي (برنارد لويس) الذي تخصص في الشأن الإسلامي وألّف عدة كتب تبحث في عمق تاريخه وبناء على دراسة منه في إحدى جامعات شيكاغو عام 1975م ظهر تقسيم السودان ثم تدمير العراق الذي تبعه تدمير ليبيا وسوريا ومن قبلهم أفغانستان، وأكد حقيقة وجدية هذا الفهم صدور كتاب صراع الحضارات للبروفيسور (صامويل هنتنجتون) ثم اندلاع الحرب على الإرهاب عام 2001م إثر العمل الإجرامي الكريه الذي ادعت منظمة القاعدة مسؤوليتها عنه لتظهر مرحلة الخوف من الإسلام والمسلمين على السطح.
لماذا أربط بين الكيان الإسرائيلي والإسلام فوبيا؟
الحقيقة إن هذا الربط ليس من مخيلتي، أما كيف تم الربط بينهما فهذا يشرحه كتاب الشرق الأوسط الجديد الذي كتبه (شيمعون بيريز) والذي هو في مضمونه مبني على كتاب صراع الحضارات المبني أيضاً على كتاب (نشر الديمقراطية لمواجهة الإرهاب) للكاتب (برنارد لويس) وإذا تابعنا الأحداث من ذلك التاريخ وحتى اليوم فسنجد أننا أمام فهرسة قلّبت السنين صفحاتها ولا يصح أن نُكَذِب العلاقة في ما نراه في الواقع بحجّة عدم اهتمامنا بجدية ما طُرِحَ في تلك الكتب والدراسات وهي تطبيق فعلي خطوة بخطوة.
إن الكيان الإسرائيلي اليوم بين خيارين، أما أن يدخل وينسجم مع محيطه في المنطقة من خلال إخراج الآخرين من التاريخ - لأن ليس له تاريخ - إلى المستقبل الاقتصادي الأمر الذي يحتاج معه لظهور الدين الإبراهيمي الجامع للأديان اليهودية والمسيحية والإسلام أو الزوال من الوجود بحكم عجز القوة عن حماية هذا الوجود في حيّز وهن وضعيف في عمق قوة معاكسة وإن لم تتساو معها في القوة المادية أو لنقل آلة القتل والتدمير لكن تتغلب عليها في الوجود.
صحيح أن حرب الدول لم يعد قائماً بين الدول العربية وإسرائيل إلا أن إسرائيل تواجه اليوم قوى تسعى لمقاومة الاحتلال وتحيط بالكيان من الجهات الأربع بما في ذلك البحر بل وحتى من الداخل في العمق كجبهة خامسة، وكما يقر جنرالات الكيان ذاته أن أي حرب قادمة لن تكون محصورة في جبهة واحدة بل إنها ستكون حرباً وجودية تنتهي إما بإعادة (الاستقلال) كما يزعمون أو بزوال إسرائيل عن أرض فلسطين، والمعنى هنا ليس في رجحان القوة العسكرية وآلات القتل والتدمير ولكن في الطبيعة الوجودية والديمغرافية الجيوسياسية لقاعدة عسكرية محاصرة بقوة وجودية بقاؤها أصبح أكثر تكلفة من خسارتها.
الحرب في فلسطين ليست بعيدة بل المتوقع أن تندلع خلال الأشهر الستة القادمة باعتبار أن آخر حرب انتهت بعد اثني عشر يوماً باتفاق لم ينفذ شيء منه حتى اليوم، لكنها كانت حرباً نوعية مختلفة عمّا سبقها واعتاد عليه الكيان الصهيوني بل أعطت إشارات واضحة لنهاية مرحلة وبداية مرحلة أخرى مختلفة في المواجهات المستمرة منذ تأسيس الكيان بقرار من الأمم المتحدة، ما يعني أن الخيار الأول يبدو أمراً صعباً حتى ولو تم التطبيع مع الكيان على قاعدة (نتنياهو) السلام مقابل السلام، فمن ناحية نجحت القوى اليمينية المتطرفة في الاستحواذ التام على السلطة في الكيان ومن ناحية أخرى لازال الفلسطينيون يقولون إنهم تحت احتلال ومن يقبل منهم بأقل القليل دويلة منزوعة السلاح محاصرة بالمغتصبات ممزقة الأشلاء فإنه لا يجرؤ في المقابل أي سياسي إسرائيلي اليوم في الكيان لسماع مثل هذا ولو من باب التروية أو المجاملة حتى.
ونشاط الإسلام فوبيا يبدو أنه لم يأخذ مداه الكافي ليعطي النتيجة المرغوبة رغم إنشاء المنظمات الإرهابية العمياء باسم الإسلام وهو منهم براء - وما هم إلا صنيعة مخابرات لتفعيل شيطنة (الإسلام فوبيا) وهدمه - كما أن حال الدول العربية والإسلامية قد تطور وصعد إلى الأعلى في القوة والمتانة عمّا كان عليه قبل قرن من الزمن، وبذات الوقت فإن وعي وفهم وثقافة الشعوب العربية والإسلامية أيضاً نما وتطور واتسع وتعمق بفعل ما حظي به من أمن واستقرار ولو نسبياً في بعضه مع انسياب التعليم والإعلام وانطلاق المعلومة وكل هذه معطيات تشير إلى أننا أمام أبواب تحول تاريخي هو في الحقيقة النتيجة الأخرى المعاكسة التي تجاهلها أولئك المفكرون في الغرب في كتبهم ودراساتهم التي بُنيت على القوة والقدرة المادية متجاهلة القوة الروحية ومنطق التاريخ الإنساني والديني الذي يمرض لكنه أبداً وإطلاقاً لا يموت، رغم أن جل مضمون طرحهم ليس إلا من وعاء ديني سمّوه صراع حضارات، هم في الواقع الأقوى عسكرياً والأكثر نفيراً لكن الحقائق التاريخية الوجودية ثابتة منذ الأزل وحين يأخذ الخطأ أو الباطل مداه الزمني حسب جبروت قوته ويبدأ في الوهن والضعف أما في ذاته أو من صعود القوة المقابلة فيبدأ أثر هذا الباطل أو الخطأ في الارتداد إلى الخلف أمام صولة الحق وصحيح المنطق التاريخي الذي تحكمه الحقيقة الوجودية، هذا هو حال الحضارات الأممية على مر التاريخ ولا نهاية له.