«ليس شرطًا في القصيدة التي تأخذني لمرافئها أن تكون غاية في الجمال والسبك!، فهناك ما يشبه التجاذب بين روح القصيدة وروح القارئ، لا أعرف تحديده؛ لكنّه السبب الذي يدعوني لإعادة القراءة كلما أشحتُ النظر عن قصيدة من هذا النوع!!».
تغريدة للدكتورة المبدعة «أمل محمد العتيبي» -حظيت بتصفيق حار، وإشادة مستحقَة من قِبل المبدع الكبير، أستاذنا الذي علمنا الشعر «فهد عافت»-، واختصرت عليّ إجابات وأسئلة شعرية كانت تربكني.
أغربها هذا السؤال الذي وجّهه لي عبر (تويتر)، ولعدد من متذوقي الشعر، الدكتور «ناصر الحريص»:
»أستاذي في الشعر الجاهلي، والذي حبّبَ إليّ بشرحه الآسر وطريقته المميزة في الإلقاء، ذلك الشعر بغريبه ووعورة ألفاظه وجعلنا نتذوق معلقة طرفة ووصفه لناقته- يقول: إنه لا يعرف لهذا البيت نظيرًا في جميل نظمه ولا في نفاسة معناه: «يالله عسى ما تكره النفس خيرة»، رأيكم؟».
حقيقة أربكني هذا السؤال وقتها، وتركت الإجابة لمن هو أعلم مني؛ ولكن تذكرت وأنا أبحث في ذهني عن إجابة أنّ:
- كل القصائد التي سمعتها من والدي - رحمه الله - أحبّها.
- كل قصائد والدي - رحمه الله - أحبّها، بل أشدّ من حبّي لقصائدي.
- كل قصيدة عن المطر، فيها (برق, ورعد, وسحاب, وضباب) مهما كان (مستواها الفني)، فإنها تنسيني مستواها!.
***
قبل فترة زرتُ قبر (أقرب أصدقائي) بعد رحيله بأيام، مع (أقرب الناس) له، ونحن في الطريق إلى المقبرة بدأنا نستعيد الذكريات والمواقف والحكايات، وفي عزّ الكلام أوقفت الكلام دون أن أشعر بهذا البيت:
«لا تجيب الكلام اللي يجيب الدموع..
ثمّ أجيب الدموع اللي عليها الكلام!».
البيت هذا لمحته في (تويتر)، وحفظته من اللمحة الأولى.. الغريب أنّ هذا البيت، قبل هذا الموقف لفت انتباهي بتركيبه فقط؛ ولكن بعد هذا الموقف شعرت أنّه يشتعل في أعماق قلبي، وما زلت أشعر بحرارته وصدقه وتمنيته لي.. وبحثت وقتها في (تويتر) عمّن كتبه، فوجدته للشاعرة: «ميلاف العتيبي».
***
في (تويتر) ذات ليلة غرّد الشاعر الجميل «جمال الشمري»، - الشاعر الذي لديه من الحنين ما يكفي جميع الشعراء، ومن الشعر ما يدهش، أجملهم وأعذبهم وألطفهم - ببيتين أسقتني الدمع:
«يا رب همّالٍ تزبّر مناشيه
تضفي على من يسكن القبر سحبه
لا نافعه نوّه/ ولاهوب محييه
«بس أذكره لا ناض نوضٍ فرح به»
هذه (الأبيات الشعبية) مع بساطتها ومرورها مرور الكرام على المتابعين، «أبكتني» مرتين؛ المرة الأولى: حين لمحتها وتذكرت والدي -رحمه الله- الذي علمني حب المطر، وهو يستقبل الأمطار والبروق والرعود بالقصائد في جبال قريتنا وهو في نشوة (شعر ومطر).
والثانية: بعد أول مطر يهطل على الرياض بعد رحيل صديقي المقرّب «مشرف التمياط» - رحمه الله-، رفيقي في ليالي الرياض الفاتنة والماطرة، والذي يتحول عندما تهب نسمات الغيمات الباردة و(ترق ملامح الرياض) من إنسان لطيف إلى شاعر عذب يبحث عن الكلمات الجميلة والصور الفاتنة في كل مكان، ويبدأ يتفاعل مع حبات المطر بالتغريدات كما يتفاعل أرق وأعذب الشعراء..
***
ذات مرة سمعت أغنية قديمة لـ«خلف بن هذال» (طرقها / بحرها) غير مستهلك، وهذا مما يتميز به هذا الشاعر الأصيل، والمتابع (لمحاوراته وأغانيه القديمة) يعرف هذه الميزة التي يتميز بها، فبحرفنة شاعر فنان استطاع أن يبتكر بحورًا شعرية شعبية (طويلة وقصيرة) بالمد وبالجزر الشعري للبحور - إن صح الوصف -، وبعض هذه (الطروق) لم يطرقها غيره على حدّ علمي..
فتناقشت ليلتها مع الناقد والروائي وقارئ الصحراء المختلف «عواض بن شاهر العصيمي» حول (بحر القصيدة)، ونبهني لصورة جميلة داخل الأغنية: «شبه ريمٍ رعت عشب الفياض وذيروها عصيّر بوارديه»، هذا الصورة الجميلة وهذه الأغنية عرفت أنها ستطرب (قريبي) الذي ينتمي لجيل «خلف بن هذال» والمولع بقصائده وبأغانيه القديمة إلى أبعد الحدود.. وفي أول جلسة لي معه سألته عن أغاني «خلف» التي يحفظها، وبعد أن سمعت منه باقة جميلة أعرف منها: «فالكويت أمسيت وقلبي من الفرقا صخيف» و«راحوا عساهم ما يروحون في شرّ» و«ضيقت صدري يا حمام الدار»..
مددت يدي (لجوالي) ورفعت صوت «أبوهذال»، وهو يغني: «تلني تل ركبٍ تله المنجوب مع جو قيعانٍ خليه»، وبدأت ملاح وجه «قريبي» وهو يسمع الأغنية تتغير.. كأنه يتأمل نهرًا من العطر يتدفق من أعالي الجبال، كأنّه يتأمل قصائد من ذهب تتمايل فوق السحاب، كأنّه يستعيد أجمل صور (الماضي الجميل) في نسمة عشب..
وحين وصل «خلف» «شبه ريمٍ رعت عشب الفياض وذيروها عصيّر بوارديه»، بدأ قريبي يردد: (الله أكبر.. الله أكبر..)، وخرجت من عنده وهو في حالة (شعر وطرب وحنين) وأنا في حالة سؤال..
أخيرًا:
سأجيب في هذا المقال على أظرف سؤال وصلني..
سؤال (طريف ظريف لذيذ)، وصلني من صديقي (الجميل الأصيل المشاكس) «مشعل بن طايل العتيبي»:
«لوكنتَ في أعلى جبال (بادية الشلالحة) (القرية التي تصدّر الشعر)، وحولك الشعراء الذين طردهم «أفلاطون» من (مدينته الفاضلة) يشتكون من البرد والمطر، لمن من الشعراء ستهدي (الجبّة) التي ترتديها؟!»
سأهديها «لمبدع واع» يستوعب ما لذّ وطاب من الجمال، ويتسع قلبه لكل أشكال الشعر (الحداثيّ التقليديّ)، (الفصيح والعامي)، (العمودي والتفعيلة).. ولو أكمل هذا البدويّ الجميل سؤاله اللذيذ الطريف بكلمة تدل على (البداوة التي تجمعنا)، وقال: من هو الشاعر الذي يستحق (الفنجال الأول)؟!
لقلت له: يستحقه شاعر خرج من أرضنا ولم يتنكر (لشيحنا وسمرنا وطلحنا)، شاعرٌ مبدع جميل جميل، إذا انتهى من قراءة (زنجية شقراء) القصيدة التي صاغها الشاعر الحداثي «محمد الثبيتي».
غنى «طاب الجلوس بجانب النار يا شعيّل»، القصيدة التي صاغها الشاعر الأصيل «عبدالله بن عون».
تغريدة:
«الشعر الحقيقي هو الذي ينسيك شكله»!!
غرّد بها الدكتور «عبدالله الوشمي» في يوم الشعر العالمي.
هامش:
لا أدري، هل استطعت من خلال هذا المقال إيصال فهمي للشعر، وهل أنا من الذين عرفوا الشعر واستوعبوه!؟.
لا أدري؛ ولكن كل ما وددت قوله في هذا المقال اختصرته الدكتورة «أمل بنت محمد العتيبي» بتغريدة (في أول المقال)، وكل ما وددت قوله في هذا المقال اختصره الدكتور «عبدالله بن صالح الوشمي» بتغريدة (في اّخر المقال ).
شكرًا لهما، وشكرًا لكم على هذه القراءة..
** **
- عبدالعزيز بن علي النصافي