حينما تقرأ عنوان رواية «مذكرات من البيت الميت» تعتقد أنك ستقرأ عن بيت مهجور وكئيب مخيف تسكنه الأشباح، ولكنك تفاجأ بأن دوستويفسكي يروي عن تجربته في عالم السجن، حيث تم اعتقاله بسيبيريا بسبب انتمائه لإحدى الجماعات السياسية المحظورة في روسيا بذلك الوقت وحكم عليه بالإعدام، ولكن خُفِّف الحكم بأمر القيصر إلى أربع سنوات مع الأشغال الشاقة.
يحكي دوستويفسكي ما حدث له بالرواية على لسان بطلها الكسندر فرفيتش ويرويها كمذكرات يومية أو سيرة ذاتية والذي شعر فيه بأنه عزيز قوم ذل، حيث رأى نوعية المسجونين بداخله من الحثالة عديمي الوعي والثقافة من القتلة والمجرمين وقطاع الطرق، فكان هذا جحيماً بالنسبة له، وكان هناك رفض وعداوة من معظم السجناء له على الرغم من محاولاته أحياناً الاندماج معهم؛ بسبب انتمائه إلى طبقة السادة الذين اضطهدوا أبناء الشعب وعاملوهم بكل قسوة واحتقار، وهذا ما جعل دوستويفسكي في السجن بغالب الأحيان بعيش في عزلة وانطواء على ذاته؛ ما جعل هذه السنوات الأربع أكثر ألماً وسواداً، وكان يروي هذه التجربة الإنسانية بحس مرهف من خلال أسلوب عبقري في السرد والتحليل النفسي لشخصيات الرواية، حيث يعرض الأشغال الشاقة التي يقوم بها السجناء التي يتعلمونها ويتعاطون معها بشكل يومي، وكيف أنهم يحاولون أن يسلوا أنفسهم في هذا العالم الذي يعتبر قطعة من الجحيم، من خلال سرد جميل للأحداث يشدك في قراءة الرواية ويجعل لديك الفضول لكي تعرف ما الذي يجري في هذا العالم الموحش والقذر، وكيف المعاملة السيئة من ضابط السجن والجنود المنوط بهم حراسة السجن، حيث لابد أن يكون المسؤول عن السجن صارماً وديكتاتوراً لا يرحم في تنفيذ أشد العقوبات بشكل قاسٍ جدا لكل من يخالف أي من تعليمات السجن، وكيف أن الأكل المقدم من مطبخ السجن قذر وتكون فيه الصراصير، لذلك لا تستسيغه الأنفس السوية، ولكن المساجين قد تأقلموا معه ويأكلوه والمحظوظ من كان معه مال ليشتري طعام من خارج السجن ويكونون فرحين عندما يزورونهم من يوزعون عليهم أكلاً عن طريق الكنيسة وفاعلي الخير.
ويشرح عدم الراحة في الليل والنهار بسبب إزعاج مشاحنات بعض السجناء، لذلك لا يأخذون كفايتهم في النوم، لأن الجنود يوقظون المساجين فجراً ليبدأوا الأعمال الشاقة، كما أن هناك روائح كريهة في العنابر، لذلك فالسجن هنا ليس تهذيبا وإصلاحا كما يشاع، ولكنه إذلالٌ للنفس البشرية وجعلها تصل إلى مرحلة الانفجار واليأس، حيث يصل الحال ببعض السجناء إلى حالة الانتحار أو الجنون أو القيام بجريمة قتل في السجن لأجل أن ينفذ في القاتل حكم الإعدام ويرتاح، كما أن بعض السجناء يعيش على الأمل والحلم بالحرية ولو كانت فترة محكوميته بعشرين سنة أو أكثر، وبعض السجناء يفقد صحته وقوته خلال طول فترة حكمه في السجن.
ويصف دوستويفسكي الاستحمام الجماعي بدلو والسلاسل في أرجلهم في مكان واحد، وكذلك الحال عند النوم حيث ينامون كمجموعات والسلاسل في أرجلهم، وفي الأخير يتأسف دوستويفسكي على فراقه عالم السجن بعدما اعتاد عليه ليقول إن الإنسان يستطيع العيش والتكيف مع أي بيئة صعبة تفرض عليه. وبسبب ما قد مرَّ عليه بسبب السجن أدى لإصابته بنوبات صرع لازمته بعد ذلك طوال حياته.
هذه الرواية لاقت صدى كبيراً عند الفقراء وعامة الناس بل وصل صداها لأصحاب القرار والأمراء الحاكمين في روسيا، وبسبب ذلك تم إلغاء العقاب الجسدي وتم إصدار قانون بإلغاء العقوبات الجسدية عام 1863م، لذلك تعتبر هذه الرواية من أجمل ما كتب في أدب السجون.
** **
- سلمان محمد البحيري