عبدالوهاب الفايز
والآن يحق لبلادنا أن تحتفل بيوم التأسيس الأول للدولة، (22 فبراير)، ففي هذا الحدث السنوي سنكون أمام فرصة للتوسع في (استثمار التاريخ) الثري لبلادنا، الثري بتضحيات قادته وأبنائه، والثري بجهود مضنية لبناء الدولة قامت به أجيال ممتدة من حكامها وأبنائها.
لهذا الحدث دلالاته الكبيرة والعميقة، أبرزها أنه سوف يؤسس لعلاقة نوعية جديدة تضع الأجيال القادمة في العمق الحقيقي للدولة، دولة تشكلت روحها وهويتها وعلاقتها بالأرض والناس منذ ثلاثة قرون، وهذه الأجيال المستعدة للمستقبل سوف تنظر لتاريخها بفخر وستكون أكثر (اعتزازاً بالجذور الراسخة لهذه الدولة المباركة)، كما جاء في الأمر الملكي الكريم الذي حدد 22 فبراير يوم التأسيس للدولة.
أيضًا سوف يبعدنا عن الإشكالية التي قد تتولد للأجيال القادمة حول فهم العلاقة بين مراحل تطور الدولة، وهي إشكالية كنا نلمسها لدى من يزور المملكة من الباحثين والإعلاميين الذين كانوا يتساءلون عن الفرق بين التأسيس الأول وبين الوحدة الحديثة الذي قادها الملك عبدالعزيز -رحمه الله. بالنسبة لنا، هي امتداد طبيعي للدولة التي أسسها الإمام محمد بن سعود.
كذلك من دلالاته الإيجابية ضرورة التوسع في استثمار الحقائق المستقرة عن تاريخ الدولة وتطورها. هذه تضعنا أمام الحاجة العلمية لإعادة اكتشاف كل ما يحيط بنمو الدولة، وأدب وأعراف الحكم. توثيق وتأصيل هذا الموروث يتطلب جهد مراكز الأبحاث المتخصصة بدراسة وتوثيق تطور الدولة ومسيرة رجالها، والعلاقة الكبيرة التي تربطها بالناس الملتفين حولها منذ التأسيس في الدرعية. فيما بين أيدينا من تاريخ لمسيرة الدولة قليل ولم يُبرز الجوانب الحيوية التي كانت حية وحاضرة في الدرعية. والأهم لم يُبرز المرتكزات الأساسية للحكم وأدبياته التي سار عليه مؤسسو الدولة وقادتها. دارة الملك عبدالعزيز لديها ثروة معرفية وخبرة في تاريخ الدولة تجمعت في العقود الماضية، وهذه تهيئ الفرصة لاستثمارها والبناء عليها.
من الأمور التي تحتاج إلى التوثيق والإبراز هي الأمور التي ظلت حاضرة منذ السنوات الأولى وساهمت في ثبات الحكم واستمراره. ونقصد حرص الحاكم على تغليب مبادئ العدل والصفح، واستيعاب المخالف، وعدم الغدر، وكرم النفس وبذل المال، ونصرة الضعيف والسعي في حوائج الناس، والحرص على تكريس مقومات الكرامة الإنسانية. هذه من الأمور التي عززت القوة الناعمة للدولة وأعطتها الجاذبية والتميز في بيئة صعبة وشرسة.
ولأن الدولة الفتية تحتاج إلى العقول الواعية المستنيرة المؤمنة بالعلم والمقدِّرة للعلماء، فقد كان هذا هَمُّ الملك عبدالعزيز الأول الذي حرص عليه في بداية توحيد الدولة، وكان مضحيًا ومتواضعًا لأجل الدفع بمسيرة التنوير، بل كانت هي حرب البناء الأخرى للدولة التي قادها وواصل أبناؤه الملوك من بعده توسيعها وتعميقها.
والإحساس والرغبة في الإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي المبني على العلوم الدينية والدنيوية وضع جذورها الأولى في مكون الدولة قادتها المؤسسون، ونجدها بارزة في علاقة التعاون والتعاضد القويين بين القيادة السياسية وبين النخبة المتعلمة المؤمنة بنشر العلم، وهذه النخبة كان يسندها قيادة سياسية تتطلع إلى نتائجها المثمرة لحياة الناس ولاستقرار الدولة.
والرغبة التي انطلقت بها الدولة الجديدة لإحياء المقومات الأساسية للعقيدة الإسلامية، لبناء المؤمن المستنير القوي، هي امتداد لما قامت به الدولة الإسلامية في عصرها الأول، فقد أعادت صياغة البيئة الحاضنة للإنسان، وأنتجت أجيالاً قادت الفتوحات الإسلامية، وبنت دولاً وحضارة عظيمة. فالعلاقة التي بدأت وبُنيت على حب العلم والعلماء عززت دور ومكانة الدولة، وعززت سمعة الدرعية كعاصمة استقطبت طلبة العلم وُنسَّاخ المصحف الشريف، وعلماء الحديث والشعراء ومحترفي الفنون البارزة في الزخرف.. وهذا التنوع هو ثمرة المناخ المتسامح المنفتح على العلوم وعلى جميع المذاهب، حيث كانت تُدرَّس فيها أغلب تفاسير القرآن الكريم ومنها (تفسير الطبرسي)، والعلاقة الإيجابية مع العلم وطلبته ظلت في أولويات الدولة في مراحلها المختلفة.. وحتى وقتنا الراهن.
ومما حرص عليه قادتها، بحسهم الفطري للقيادة والزعامة، هو ضرورة إيجاد الهوية الجامعة للدولة. في كتيب أصدرته دارة الملك عبدالعزيز مؤخرًا تضمن معلومات تاريخيه مهمة تؤكد عمق الهوية الإنسانية والحضارية الراقية لبلادنا. لقد ذكرت أن أمراء الدرعية منذ الأمير مانع أسسوا لـ(دستوراً عائلياً للحكم ركز على فكرة الدولة، وعلى العنصر العربي، وهذا جعل الدرعية مدينة لا تقوم على عصبية قبلية، وإنما على أساس دولة عربية).
الذي نتطلع إليه، وحتى نستكشف هذا العمق الثري للدولة، وسبقت الدعوة إليه هنا في جريدة الجزيرة بتاريخ (29 يناير 2020)، هو ضرورة دخول الحكومة، عبر دارة الملك عبدالعزيز، لقيادة مشروع وطني نوعي يستثمر معطيات الحقبة الرقمية لتأسيس (الموسوعة الوطنية السعودية). عالَم الموسوعات والكتب الموسوعية كبير، وهو تقريبًا مصدر الباحثين والدارسين، ومرجع للبحث عن المعلومات الدقيقة الرسمية ذات المصداقية. نقل موروث الدولة وإخراج كنوزه للأجيال الجديدة يحتاج إلى آليات وأدوات العصر الذي نعيشه. الدارة سهلت لنا المهمة، وبقيت الهمة!