فضة حامد العنزي
=أنت تحبّ، وأنا أحبّ..فلْنتّفقْ.
لكن ما الحبُّ الذي يقودني للفلاح؟ وما الحبُّ الذي يدمّرني؟ بل يشغلني ويجعلني في شتات وضياع مؤلم؟! أيّهما تريد؟ هل أنت عاقل وتفكر بوضوح ورؤية سليمة؟ إذاً فكِّرْ في حبّك. نعم! فكِّر في حبّك.
هو لمن؟ ولم؟ وكيف تستفيد من حبّك؟ أجبْ؛ ماذا تنتظر؟ لِمَ تَحَيَّرْتَ في سؤالي: لِمَ أحببتَ؟ أعرف أنك تحبّ؛ والحبُّ شيء رائع، لكن لم؟
ما الفائدة من الحبّ إذا كان حبًّا خاسرًا؟!
أنت تعرف ما الحبّ الرائع، وهو الحبّ في الله، لكن البعض تأخذه العواطف على عجل، أو يُخدع، أو يوهم نفسه بسلامة حبّه!
طرحتُ عليك هذه التساؤلات التي ربما تَعجبُ منها؛ لأنّ الحبّ أمره عجيب في تمكُّنه من قلبك، ومن دون تدخُّلك أحيانًا.
وإنك لو تساءلتَ يومًا ما عن سرِّ حبٍّ يسكن أعماقك فستجد الإجابة مدهشة، وأحيانًا لا تجد السبب! أعرف ذلك؛ فلله كل الأمور، ولله الأمور الغيبية.
لكني أحببت أن أرشدك إلى أنّ استمرارية بعضه التي قد تضرك أكثر من أن تنفعك، أو تعلُّقك الزائد الذي قد يتعبك إمّا بصدود خلّانك؛ وإمّا بالجزع بفقدهم وعدم قبولهم لك كما كانوا؛ وإمّا أن يخيب أملك فيهم وتخذل منهم. وإن كنتَ ممّن أحبَّ وتعلَّق ولم يستطع غير ذا فكن في مسارك الصحيح ولا تقع.. لا تقع في شباك الوهم أو تعرقلك حبائل الشيطان.
ولا تنسَ نفسك في سبيل من ينساك عند غيابك أو يهملك في بعدك، ولم يسعَ لرضاك، بل منهم من لم تسلم مِن ظلمه وأذاه! ولم يمدَّ إليك حبل الوصل ودًّا، بل جرَّ عليك أقاويل الكذب بعدًا!
فمن يفعل ذلك فارحم نفسك بمراجعة حبك له، أو ترحيله من قلبك بالبعد عنه؛ إذ لم يُجْدِ الصبر معه ولم تنفع الحلول فيه.
فبقربك منه حريٌّ به أن يتعبك معه؛ لذا فعندما أن تأتيك فرصة للابتعاد عنه غادر مكرمًا، أو ابتعد من نفسك عزيزًا، نفسك التي لا تعرف إلا النيّات الناصعة تجاههم؛ وهم مَن لوَّنوا صورتهم لديك بأيديهم ولم يحسنوا تلوينها، بل طمسوا معالم الجمال الذي كنت تراه أو توقَّعْتَه، ولم يكن!
بعض الحبّ إن وصل للضرر والظلم فهناك من يقاوم ويحاول الإصلاح فيه، وهناك من يسحقه لتذروه الرياح كالهشيم، وهناك من يبتعد وربما يسامح، وهناك من يرفع أمره لله ليأتي الوقت الذي يريد الله أن يجزيهم النتائج التي يستحقّونها.. وتكون قد سررت بأن الله قد نصرك على الظالم الذي أبكاك وقهرك وظلمك وآذاك وأقضَّ مضجعك.. وإن كان له مكانة يومًا وتبدّلت الأحوال في قلبك إلى أمر عاديّ جدًّا.. وأحيانًا إلى كره.. أو لم يدخل الحبُّ حقيقةً في قلبك له.. جميل أنك كنت مسالمًا؛ وكان الدعاء سلمك، وكنت صابرًا؛ وكان التوكّل مصبّرك، وكنت واثقًا؛ وكان اليقين داخلك.. وأنت تعلم أن الحياة ستزيَّن لك عوضًا من الله؛ وستجد أناسًا خيّرين مناقضين تماماً للسيّئين الذين آلموك.. وكلُّك يقين بالله أنه سيكافئك، ويعوّضك، ويَجْبُرُك في الدنيا والآخرة.
فهؤلاء لا يصلحون للحبّ؛ هم عابرو سبيل في حياتك، اختبرتَهم بسموّ الحبّ وفشلوا، ولم يحسنوا لحسن ضيافتك الكريمة في قلبك الطيّب! بل أخفقوا في الاختبار..
وما كان منك إلا أن مزّقتَ أنتَ ورقتهم وأخرجتَ ورقة أخرى أجمل؛ تشترط فيها ألا يدخل في اختبارك إلا الأكْفاء، أقصد اختبار السموّ والمواقف واختبار المعاملة معك، ومن يدخل ويرسب.
فلْيخشَ الله من عاقبة ظلمه إلا أن يكون رسوبه قدَرًا دون إضرار.
وبعض الحبّ هواء تتنفّسه.. فإمّا أن تتنفّس هواءً نقيًّا؛ أو ملوَّثًا؛ أو بين بين، فالأمر بيدك في أن تقترب أو أن تبتعد لهواء أنقى.. ولبعض الحبّ المتبادل رائحة كرائحة الجنّة في يوم ماطر!
وسعادة كرؤية الأمّ بعد فقد زمن غابر!
وفي حالة أنّكَ لستَ بعاقل في الحبّ تحمل ويلاته وعواقبه، إلى أن يجعلك حبك هذا عاقلًا أو منعمًا أو متضرّرًا أو يلازمك الجنون إلى الأبد..
وقد تنعم بمحبوبك. نعم؛ فالحبُّ نعيم لمن رُزقوا به وعرفوه وقدروه، وما أعنيه هو الحب الذي يأتي من الله ويدخل القلب الذي ربما تجاهل بعضًا ورفض أناسًا غيرك؛ لكن أدخلك الله فيه؛ فبسط لك حبيبك الطريق فلًّا ورياحين، وإنه عند رؤية دموعك حزنًا يتعكر مزاجه، وينقلب يومه لتعاسة إلى أن يراك تبتسم من جديد فيزهر ويضحك سنّه، ويلبّي حاجاتك ويسعدك..
وعند وقوع الخطأ منه يعتذر ويصحّح، وإذا شعرتَ أن الذي يحبّك عيناه تريدان حملك من على الأرض واحتضانك وأن يديه ألطف يد وقلبه أطهر قلب ولسانه أتقى لسان وروحه أنقى روح؛ ويخشى الله، ووجدت أن نفسك بالكلام معه تأنس، وأن لأقواله لذة وأفعالًا معها تحمد؛ وأنه صادق ووفيٌّ معك؛ ورأيت من نفسك أنك تدعو له في صلاتك دائمًا؛ وتخشى ابتعاده، وتستوحش بغيابه إن طال، وتشتاق له في كلِّ رمشة، وتحبُّ قربه كلَّ لحظة، وأن كلامك حسنٌ ولطيفٌ معه، ولا تودُّ انقطاع الحديث حين مهاتفته لولا أنك تتلمَّس عذره؛ إنما تشعر بزيادة الاشتياق داخلك؛ ورأيت أنك لا تحبّ أن يتأذّى حبيبك، وأنك تقدِّم له ما يَسُرُّه. فمتى شعرتَ بذلك كلِّه - أو أكثرِه - فاعلم أنك رُزقتَ الحبَّ الذي يسمّى حبًّا فعلًا! فحافظْ عليه واشكر الله.
وإنّ أمور الحبّ أكثر وأعمق ممّا كتبتُ عنه وما سأكتبه؛ وأكبر وأعظم من وصفي له وما سأصفه؛ ويبقى الحبُّ تعبيرًا مفتوحًا له الكلام دائمًا، وإنّ أرفع درجاته وأعلاها وأجلَّها وأهمَّها وأقواها وأجملَها وأسماها وأشدَّها حبُّ الله سبحانه وتعالى..
أمّا الآن فسِرْ معي أيها القارئ لحظاتٍ.. ثم قف أمام البحر في جوّ لا يعكّره غبار، والشمس صافية، وقد بدأت تغرب، تأمَّلْ أكثر، بل وأكثر.. فكِّر.. إلى أين ولَّت الشمس بعد نهار مشرق؟
هل فهمت؟ أعتقد أنك فهمت المغزى من كلامي؛ لأنّك ذكيّ..لا تقلّلْ من شأنك؛ فأنتَ ذكيّ؛ لأنّك مخلوق تميَّزت بالعقل عن سائر المخلوقات، لكن أنت مكلَّف لغاية عظمى هي سرّ وجودك، إنها العبادة لله وحده، وحبُّه أشدُّ الحبّ؛ سبحانه المستحقّ؛ وهو الله الخالق الواحد الأحد؛ لا شريك له ولا ندّ، ولا صاحبة ولا ولد. قال تعالى: (وَالَّذينَ آمَنوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ).
وقال تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إلا لِيَعْبُدُونِ).
أمَا زلتَ واقفًا أمام البحر أم ذهبتَ بعيدًا؟.. ها قد ودعتك الشمس بعدما أعطتك دفئًا رائعًا! لذا اعمل لله وأَحِبَّ في الله، فرُبَّ أشعث أغبر لو أقسم على الله لأبرَّه.. فكِّرْ في الأخلاق والدِّين؛ فالمرء على دين خليله، اِعْقِدْ في نفسك أن تصاحبَ الأخيارَ وتحبَّ الصالحين لتفوز، فالمتحابّون في الله على منابر من نور يغبطهم الأنبياء والشهداء.
من كتاب: مات ولم تخرج روحه منقحة ومزيدة