فلا أقول عن أسطري مُتممة، بل آتِ ذات الموضوع من وجهةٍ أُخرى، أي (مرحلة) وإن شئتم أقول (رحلةً) قابعةً مسافتها بين العقل وبين الجسد.
كم يرى الإنسان مما لديه من أفكار ثم يتثاءب عن تصنيعها أو أهداف لا يُقدم على تحقيقها دون (التدقيق) بالأسباب الذاتية التي تحوله عن البلوغ بذاته تلك النجعة، فيلجأ إلى الشكوى والأنين.. الذي ربما أمضى السنين وهو محلّك سرّ!
هل- يا تُرى يحتاج أحدا يسعف.. يفيق، أو يُخرج ذاك العملاق من قمقمه؟!
بدءًا لا شك أن الدوافع الداخلية لدى المرء هي التي تجعل من تلك الأفكار مشاريع مُشاهدة، فيما الحالة الأخرى من تبقي تلكم حبيسة الأماني والتمنّي بالنفس، وللأسف الأخيرة سوادها بالناس أكثر!، وهذا - للعلم- يفرّق ليس بين أفراد ولا مجتمعات فحسب، بل بلغ اليوم شعوبا، فـ(النمور الآسيوية..) من الفئة الأولى مثال صارخ في عالم اليوم، فيما تقبع دول لديها من المقوّمات (لو تفحّصت) فيما حولها، لوجدتها أكثر مما لدى تلك النمور..!
فيما تجد حالة ثالثة.. من نُسميهم بفئة (أهل الهمم) لديهم «إعاقة» جسدية نعم، وهم مسلّمون لها، لكنّهم ليسوا مستسلمين لمبلغهم إياها، بل إنه ولّدت لديهم.. أي مقابلها همّة تربو.. بل تسمو بذواتهم على تلكم، بالنحو الذي عبّر «المتنبي» عن حالةٍ مرّ بها في مضارب مسيرة بالحياة وقُلّبها به ليُنشئ.. أحد فرائد ما رُزق من ابداع سطّره لأهل الحكم في ديوانه/
ابدا اقطع البلاد ونجمي في
نحوس، وهمّتي في صعود
ففي قوله (أبدا) أي لا أتثاءب..، فضلا أن أتوقّف.
نعود للمبتدأ من صدر المادة، أن هذه (مرحلة ما بين الطرفين) تمرّ بكلّ منّا ما تجعل صاحبها بين مدّ (الأحلام والمنى)، وجزر التماهي والدّعة، وقد حفّز حديث (.. ولا تكسل)، كما ونبّه الأعلام منّا أن اصطاد من نفسك لحظات الشجاعة واندفع بها ولا تتوقّف حتى يبلغ بك اللهث من التعب، لتعذّر لنفسك إن لم تبلغ، لا أن تعذّر لها أو تتلمّس لها أعذارا معلّقةً على مشجب الظروف أو متوارية خلف ستار الأحوال التي شئت أنت لكنها لم تخدم، والقدرات التي طرقت بابها، لكنها لم تجد لها فسحة انطلاق!
فإن كل من له هدف سعى إليه، بل و.. (احتال) للوصول له، وشيباننا قالوا:
«المشتهي يقطع المستوي» - وهي نجدة بعيد شقّ خُطاها..-
المهم أن كل من رام تعليلا لما أوقفه عن أهدافه، أو جال في عذر إلا وتصيّدا..
وبعُد فهنا استوى الطرفان، لكن الأول جاوز الصعاب، والآخر..كما وصفه الشابي:
عاش بين الحفر!!
وبالمناسبة كم هو عجيب هذا «الشاعر» فقد نفخ يوما في كير.. أقصد همّة بني وطنه إلى درجة الشكوى من وهن صدى ما لفته مناداته فيهم -ب.. ليتني-:
ليتني كنتُ كالشِّتاءِ أُغَشِّي
كلّ مَا أَذْبَلَ الخريفُ بقرسي
ليتَ لي قوَّةَ العواصفِ يا شعبي
فأَلقي إليكَ ثَوْرَةَ نفسي
ليتَ لي قوَّةَ الأَعاصيرِ إنْ ضجَّتْ
فأدعوكَ للحياةِ بنبسي
ليتَ لي قوَّةَ الأَعاصير لكن
أَنْتَ حيٌّ يقضي الحَيَاة برمسِ
أَنْتَ روحٌ غَبِيَّةٌ تكره النُّور
وتقضي الدُّهُور في ليل مَلْسِ
أَنْتَ لا تدركُ الحقائقَ إن طافتْ
حواليكَ دون مسٍّ وجَبَّسِ
إلى أن يقول.. وهو شبه مُسلّم /
ف كَفْكَفْتُ...
ثمَّ نَضَّدْتُ من أَزاهيرِ قلبي
باقةً لمْ يمسَّها أيُّ إنْسِي
ثمَّ قَدْمتُها إليكَ فمزَّقْتَ
ورودي ودُسْتَهَا أَيَّ دَوْسِ
ثمَّ أَلبسْتَني منَ الحُزْنِ ثوباً
وبِشَوكِ الجبالِ تَوَّجْتَ رأسي
إنَّني ذاهبٌ إلى الغابِ يا شعبي
لأقضي الحَيَاةَ وحدي بيأسِ
إنَّني ذاهبٌ إلى الغابِ علِّي(1)
في صميم الغاباتِ أَدفنُ بؤسي
ثم أنساك (ما استطعت)... إلخ
وقد»صدّر» بوخزٍ عميق.. لو وعى السامع/
يأَيُّها الشَّعْبُ ليتني كنتُ حطَّاباً
فأهوي على الجذوعِ بفأسي
بالذات (وهو يرى أمم فاقت من سبات، بل أخرى ضُربت يومئذ بقنابل)! فكأنها من رميس ما جالها نهضت.. فعادة إلى الحياة، وانكبّت على ذاتها تاركةً خلفها ملذّاتها.. على الأقل لإعادة بناء ما انهدم!
.. وبذات «المرحلة» نادى ندّه (البردّوني) أُمّته.. وبتصرف:
ماذا أحدث عن صنعاء يا ابت؟
مليحة عاشقاها السل والجرب
ماتت بصندوق «وضاح» بلا ثمن
ولم يمت في حشاها العشق والطرب
يكفيك أن عدانا أهدروا دمنا
ونحن من دمنا نحسو ونحتلب
وكانت الدواعي (في بداية سبعينيات القرن الماضي في محفل للشعر العربي، وأحدثت تلك القصيدة وقتها صدمة في العقل العربي الذي كان يعيش مرحلة تجربة الأيديولوجيات بحثا عن مخرج..) - منقول-
وكذا قاربهما زمنا بذات المُناداة (الجواهري) والذي خلطها بشكوى ذاتية الإصدار/
يا دجلة الخير: كم من كنز موهِبةٍ..
لديك في (القمقم) المسحور مخزون, لعلَّ(2) تلك العفاريتَ التي احْتجزتْ.. مُحملاتٌ على أكتاف دُلفينِ.
* العنوان استعرته من مادة الأستاذة (منال الحصيني) في عدد الجزيرة 17929 ولأحفظ لها حقها الإعلامي، فقد رقمت مادتي بـ(2).
** **
(1) (2) كلاهما بمنزلة لعل، مقام تعليل.. لما كان على خلاف ما حلّ ..!