د.سالم الكتبي
رغم المؤشرات المتوالية حول قرب الإعلان عن التوصل إلى صيغة تفاهم أمريكي - إيراني لإحياء الاتفاق النووي (خطة العمل الشاملة المشتركة) التي تم توقيعها في عام 2015، فإن هناك مؤشرات يصعب تجاهلها على وجود تحد دبلوماسي داخلي ينتظر إدارة الرئيس بايدن؛ حيث تتزايد الدعوات داخل مجلس الشيوخ الأمريكي للحصول على موافقة المجلس قبل عقد أي اتفاق مع إيران، وفي هذا الإطار حذر 33 عضواً بالكونجرس مؤخراً في رسالة للرئيس بايدن من أنهم سيستخدمون كل ما لديهم من قوة، أو أدوات لمنع أي خطوة قد تقدم عليها الإدارة من دون الأخذ برأي الكونجرس.
في الواقع إن السيناريو الذي يواجه جهود الرئيس بايدن لإحياء الاتفاق يبدو أشبه بما حدث عام 2015، عقب التوصل لصيغة الاتفاق الأساسي، حيث سعى الكونجرس وقتذاك لممارسة سلطة المراجعة على الاتفاق، ووقتها أوضح روبرت ساتلوف المدير التنفيذي لمعهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، هذا الأمر في مقال نشره موقع المعهد وصف فيه «خطة العمل الشاملة المشتركة» بأنها لا ترقى قانونياً إلى حد أن تكون اتفاقاً وإنما هي «تفاهمات اختيارية طوعية» تم إبرامها بين الأطراف الثمانية (إيران والولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وروسيا والصين وألمانيا)، وأن توصيفها القانوني هو اتفاقية تنفيذية لعدم وجود أطراف موقعة عليها وبالتالي فقد خضع الاتفاق الأساسي لما كان يعرف بتشريع «كروكر - كاردان» الذي أصبح فيما بعد قانون مراجعة الاتفاق النووي الإيراني لعام 2015، الذي أقره الكونجرس لينظم هذه الحالة خصيصاً، وأتاح للكونجرس قبول الاتفاق أو رفضه بحيث يكون للرئيس حق الاعتراض على قرار الكونجرس إذا رفض الاتفاق.
ويحتاج الكونجرس الحصول على أغلبية الثلثين من أعضاء المجلسين التشريعيين لإبطال «فيتو» الرئيس، بينما يحتاج الأخير إلى تصويت ثلث الأعضاء في الكونجرس ضد قرار الرفض. وفي كل الأحوال فإن الرئيس بحاجة ماسة إلى توافق مع الكونجرس لأن الأمر لا يتعلق فقط بتمرير «الاتفاق» أو التفاهمات الجديدة، بل يرتبط أساساً بسلطة الرئيس وصلاحياته في رفع العقوبات المفروضة على إيران.
وبموجب هذا القانون يحق لمجلسي الكونجرس التصويت على قرارات مؤيدة للاتفاق وملحقاته أو معارضة له، ويمكن للرئيس بالمقابل استخدام حق النقض ضد تصويت الكونجرس، ولتجاوز هذا «النقض» لا بد من تصويت ثلثي الأعضاء في كلا المجلسين. والاتفاق هنا يحتاج بموجب هذا القانون إلى أصوات أقل من تلك التي تحتاجها المعاهدات الرسمية التي تبرمها الولايات المتحدة، حيث تحتاج الموافقة إلى الاتفاق، تصويت ثلث أعضاء أحد مجلسي الكونجرس فقط ضد قرار معارض للاتفاق، بينما تحتاج المعاهدات دعم ثلثي أعضاء مجلس الشيوخ.
وبشكل عام فإن دعم الكونجرس لأي صيغة تفاهم لإحياء الاتفاق النووي الموقع مع إيران تبدو مهمة للغاية لجهة تسويق الاتفاق للرأي العام الأمريكي، فالمسألة لا تتعلق بالسلطات والصلاحيات بقدر ما تتعلق بقبول الناخب الأمريكي للصيغة الجديدة، فضلاً عن أن موقف الكونجرس المعارض قد يحد من قدرة الرئيس بايدن على رفع العقوبات المرتبطة بالبرنامج النووي الإيراني، فضلاً عن أن معارضة الكونجرس قد توفر لإيران فرصة التملص مما تم الاتفاق عليه في فيينا لاحقاً، كون هذه المعارضة قد تبعث لها برسالة مفادها أن التفاهمات الجديدة غير قابلة للحياة في حال فاز الجمهوريون بانتخابات التجديد النصفي المقررة العام الجاري، بما يعزز بالتبعية احتمالات فوزهم بانتخابات الرئاسة المقررة باعتبار ذلك مؤشراً على اتجاهات الرأي العام الأمريكي حيال الديمقراطيين بشكل عام.
إدارة الرئيس بايدن تجد نفسها محاصرة بين ضغوط عدة من بينها قلق الشريك الإستراتيجي الإسرائيلي ومخاوفه المشروعة من عواقب إحياء الاتفاق النووي من دون إلزام إيران بالحد من أنشطتها الصاروخية وجمح جماح الميلشيات الموالية لها في شتى أرجاء منطقة الشرق الأوسط، فضلاً عن عدم ثقة البيت الأبيض بالنوايا الحقيقية للقادة الإيرانيين، فالأمور لا تبدو واضحة ويكتنفها الكثير من الغموض على هذا الصعيد، فضلاً عن معارضة شريحة عريضة من مشرعي الكونجرس لأي تفاهمات جديدة لا تمر عبر الكونجرس، والأخيرة مسألة بالغة الحساسية بالنسبة للأوضاع السياسية الداخلية في الولايات المتحدة، حيث تحتاج البلاد إلى رأب الصدوعات التي حدثت عقب انتخابات الرئاسة 2020، وهي مسألة يضعها بايدن في صدارة أولوياته. وبالتالي فإن من الصعب على البيت الأبيض في هذه الظروف الداخلية الاستثنائية تجاوز الكونجرس والالتفاف عليه وتبني إجراءات رئاسية منفردة بشأن إحياء الاتفاق النووي أو رفع العقوبات المرتبطة به ولو وفق إستراتيجية الخطوة خطوة أو بشكل متدرج.
الأصعب في المسألة أن الرئيس بايدن يتعين عليه معالجة تعقيدات الملف الإيراني بشكل سريع للتفرغ للتحديات الصينية - الروسية، وهو ما يفسر القرار الأمريكي الأخير باستئناف العمل بإعفاءات عن العقوبات المفروضة على «برنامج إيران النووي المدني»، فيما اعتبرته الخارجية الأمريكية خطوة فنية ضرورية للعودة للاتفاق النووي، معتبرة أن استئناف الإعفاءات التي ألغتها إدارة الرئيس السابق ترامب عام 2020 «سيكون ضرورياً لضمان الامتثال السريع لإيران، إذا تمكن الطرفان من التوصل لاتفاق جديد». ورغم أن البرنامج النووي الإيراني «المدني» هو واجهة لتخزين كميات متزايدة من اليورانيوم المخصب الذي تتطلبه «عسكرة» البرنامج، وامتلاك سلاح نووي، فإن طهران تعترض على القرار الأمريكي وتصفه باللعبة الجديدة!
صراحة، يمكن القول إن أي اتفاق جديد سيتم التوصل إليه بشأن البرنامج النووي الإيراني قد لا يتوقف مصيره على موقف الكونجرس لأن التشريعات القانونية الأمريكية التي تتسم بالتشابك والتعقيد تنطوي على مخارج عدة يمكن للبيت الأبيض أن يمر من خلالها، فالصراع بين السلطتين التنفيذية والتشريعية في الولايات المتحدة تاريخي قديم ومستمر، وكثيراً ما اتخذ الرؤساء قرارات مصيرية دون موافقة الكونجرس، ولدى الرئيس بايدن خبرة سياسية كبيرة في التعامل مع الكونجرس اكتسبها خلال فترة عمله نائباً للرئيس الأسبق أوباما لولايتين، حيث كان الأخير يلجأ كثيراً لتجاهل التوافق مع الكونجرس الذي كان يسيطر عليه الجمهوريون ويعتمد على صلاحياته التنفيذية، وهذا ما يفسر موقف السيناتور الجمهوري البارز تيد كروز عضو لجنة العلاقات الخارجية في الكونغرس الأميركي، الذي لم يستطع التعهد صراحة بعرقلة الاتفاق المحتمل تشريعياً، بل قال «إن لم تكن الصفقة معاهدة يصدق عليها مجلس الشيوخ، فسيتم تمزيقها في اليوم الأول من إدارة الحزب الجمهوري للسلطة»، كما أن وصفه لما يدور في فيينا بصفقة كارثة محتملة من شأنه الإشارة إلى طبيعة الصراع الحزبي الحاد بين الحزبين خلال الفترة المقبلة، وتحديداً في انتخابات التجديد النصفي للكونجرس في نوفمبر المقبل.