ورقات أكاديمية تحت هذا العنوان سأكتب - بعون الله - وبعبارات موجزة عن منوعات منهجية وعلمية من قضايا البحوث الأكاديمية هي عصير تجربتي الأكاديمية المتواضعة أقدّمها من وقتٍ لآخر. وأرحب بكل ما يردني حولها من تساؤلات أو استدراكات.
هكذا قدم الاستاذ الدكتور: خالد بن عبد الكريم البكر لسلسلة الورقات الأكاديمية القيمة التي ينشرها تباعاً في حالات برنامج المحادثات الشهير (الواتساب)، مُسخراً ومطوعاً هذه التقنية لنشر العلم بين الطلاب والمهتمين من الأوساط العلمية والأكاديمية، أما لماذا اختار د. خالد هذه المنصة؟ فيبدو أنه رأى سهولة الوصول لها من طلابه، وحرصه على نشر العلم بأيسر الطرق.
والدكتور البكر صاحب تجربة علمية وأكاديمية ثرية يُشار إليها بالبنان، فهو الاستاذ الجامعي للتاريخ الأندلسي بجامعة الملك سعود، وله العديد من الإصدارات والكتب والبحوث المنشورة، وأشرف وناقش العديد من رسائل الماجستير والدكتوراه، وهو الخبير والمهتم بإقامة الورش التدريبية لطلاب الدراسات العُليا بين الحين والآخر.
وقد نشر حتى تاريخ هذا المقال نحو (27) ورقة أكاديمية؛ كُنت على اطلاع عليها، وسنتناول - إن شاء الله - في هذه المقالة عشر ورقات أكاديمية تهم طلاب الدراسات العليا مثل اختيار موضوع رسالة الماجستير أو الدكتوراه، وإعداد خطة البحث، ثم مرحلة اختيار المشرف الأكاديمي، وجمع المادة العلمية.
الورقة الأكاديمية الأولى يتطرق فيها إلى شخصية الاستاذ الجامعي ودوره كمشرف فيقول : أ. د. خالد: «شخصية الاستاذ التي يتعامل معها الطالب تلعب دوراً كبيراً في توجهه العلمي. فهو يرى العلم من بوابة هذا المُعلم، وقد يُعجبه ما رأى أو لا يُعجبه وفقاً لمستوى العلاقة التي تأسست بينه وبين أستاذه. هناك طلاب فَتَنتهم شخصية أستاذهم وبراعته العلمية والمنهجية المتوّجة بأخلاقياته، فمضوا معه في مشواره العلمي، وهذا شيءُ جيد لو كان يُصاحبُه تأملٌ كافٍ لدرجة قابلياتهم لتخصصه الدقيق، ومدى أهميته لهم! فكّر أولاً في التخصص الدقيق المناسب لك».
الورقة الأكاديمية الثانية، تتحدث عن اختيار موضوع البحث، فيذكر أن «اختيار الموضوع هي الخطوة التالية لاختيار التخصص الدقيق هي بين قوسين: (صحراء التيه)، إذ يقضي فيها الطالب أوقاتاً من الحيرة والقلق حتى يهتدي إلى موضوع بحثي مستوفٍ لشروط الدراسة. يتيه الطالب في هذه الصحراء لأنه لم يوفر على نفسه هذا الزمن الضائع! لأنه لم يستولد أفكاراً بحثية من المقررات التي درسها، ثم يناقشها مع المختصين، ويدع العقل ينازع العقل بالعقل للعقل. إنما استعذب استراتيجية التأجيل، والتأجيل لون من التعطيل. والتاريخ لا يُغّير قوانينه».
الورقة الأكاديمية الثالثة يؤكد فيها د. البكر أن: «تأسيس المحبة العلمية (أو المهنية) بين الطالب ومُشرفه، هي شرطُ - غير منظور عادةً - من شروط التمّيز في الكتابة. ويُعادلها إنشاء حُبٍ آخر بين الباحث وموضوعه شريطة أن يكون حُباً عقلياً محسوباً، يُحفّز الباحث على تقليب كل أحجاره بحيوية، لا أن يكون حُبّاً عاطفياً يسوق الباحث إلى تكبير حجارته، وهي حصاةٌ صغيرة!».
الورقة الأكاديمية الرابعة: «عنوان الأطروحة ليس مجرد غطاء للرأس، وإنما هو البّوابة إلى النص. فله دوره في الإثارة والإبلاغية. اختيار الموضوع مهم، وصياغة عنوانه مهمة أيضاً. فكم من بحثٍ جيدٍ أدْمَتْهُ سهام النقد الموجهة إلى عنوانه! مُلاءمة العنوان للموضوع كمُلاءمة اللفظ للمعنى. يتوالد عنها الإيقاع الـمُنتج للانفعال القوي، المؤثر في إحساس القارئ. ولذا يُشترط التناسب بين مكونات العنوان بعضها مع بعض، كما يُشترط التطابق والتوازن بين العنوان والموضوع. العنوان اللافت علمياً المنُضبط منهجياً، هو الإعلان الأولي عن نجاح المشروع البحثي».
الورقة الأكاديمية الخامسة عن بدايات الطريق للباحث فيقول: «يشُق على بعض الباحثين الاهتداء إلى طريق البداية (أو بداية الطريق). بداية جمع المادة، وبداية الكتابة. وسؤالهم المعهود هو: من أين نبدأ ؟ هي مشكلة قائمة فعلاً، فهناك من يعتقد أن المقصود (بجمع المادة) هو اشتراء الكتب أولاً وتجميعها - مع تأجيل النظر في محتوياتها - فيُنفق في ذلك وقتاً كان سينفعه لو استثمره بصورة صحيحة ! وهناك من يشرع في كتابة المقدمة أولاً ظناً منه أن هذه هي البداية المنطقية للكتابة! هم معذورون فيما عملوا لأنه لم يتلقوا إرشاداً أكاديمياً (خارج عمل المشرف) ولا دورات متخصصة ترسم لهم استراتيجية البحث العلمي».
الورقة الأكاديمية السادسة: «في البحث التاريخي: ابدأ باستخراج المادة العلمية من المصادر ذات العلاقة وفقاً لأقدميتها. الأقدم فالذي يليه. ثم انظر في المراجع والدراسات الحديثة ذات العلاقة لاستخراج (الآراء) منها. الآراء فقط، فالمعلومات تؤخذ من المصادر.
وتذكَّر أخي الباحث أن عملك لا يقتصر على المزاوجة بين معلومات الكتب القديمة وبين آراء الدراسات الحديثة. إذ يُنتظر منك المشاركة بآرائك وتعليقاتك في هذه الورشة البحثية كطرف ثالث. واعلم - رحمك الله - أن تعليقاتك واستدراكاتك ينبغي أن تكون جديدة وليست رجع صدى لغيرك. وأن تتجاوز فيها حدود التأييد لفلان والاختلاف مع آخر. فهذا لا يكفي في البحوث الأكاديمية. كُن طمّاعاً في طلب المعرفة! فالقارئ أشد طمعاً منك فيها».
الورقة الأكاديمية السابعة: يرى د. البكر أن جمع المادة العلمية ليست عملية واحدة فقط فيقول: «وأملي أن يعي الباحث أن جمع المادة ليست عملية واحدة؛ وإنما هي عملية مزدوجة! أو لنقل هي عمليتان. الأولى تُشبه (التقاط) الثمار على الأرض والثانية تُشبه (استنبات) الثمار من الأرض بمعنى: يُصاحب جمع المادة العلمية من بطون الكتب، جمعاً من نوعٍ آخر، وهو بناء الآراء الذاتية للباحث وتدوينها على شكل تعليقات مجاورة لمادته، فتنمو شيئاً فشيئاً مع نمو مادة البحث. هي آراء أوليّة بالطبع، قد تتغير أو تتطور، لكنها ضرورية في هذه المرحلة. بدونها فإن الباحث سيكتب رسالته بربع قلم! أو نصف معنى!».
الورقة الأكاديمية الثامنة: «البحث العلمي الرصين - كما أفهمه - ليس علاقة ثلاثية مغلقة بين الباحث، والمشرف، والكتب! بل هو علاقة تعددية مفتوحة بين الباحث ومصادر المعرفة، أيّاً كانت تلك المصادر. هناك (فُرص تواصلية) مع ذوي الاختصاص، لاستطلاع آرائهم فيما يعترض الباحث من تساؤلات علمية والتواءات نصّية. آراؤهم هي قناديل يستضيء بها الباحث لتبديد عتمة الدراسة».
الورقة الأكاديمية التاسعة، في هذه الورقة يعرض لنا د. خالد فلسفته للشخصية الأكاديمية فيرى أن: «الشخص الأكاديمي هو من يمتلك مهارة تحويل العلم إلى وعي. هو من لا يتكلم إلا بأدلة. ولا يشرح إلا بأمثلة، ولا يحكم قبل أن يسمع ويقرأ. وحصافة الباحث ستقوده إلى أن يتشرّب هذه المفاهيم أثناء الجمع. فمرحلة جمع المادة العلمية ليست مجرد إجراء وظيفي مؤقت! وإنما هي رحلة عقلية تخرج فيها الذات عن مركزها، لغرض استرداد الزمن. لغرض الحصول على التمكين العلمي للفهم والتفسير».
الورقة الأكاديمية العاشرة: «يتساءل باحثون: ألا يمكن الاستغناء عن كتابة النصوص حرفياً - عند جمع المادة العلمية - والاستعاضة عنها باستخلاص مفهوم النص وتوثيقه؟ وبالذات في المراجع دون المصادر؟ هذه مغامرة غير مأمونة! فمع توقع نسبة الخطأ العالية فيها، فإنها تحرم الباحث مع تفعيل أدوات التحليل والربط والمقارنة. ثم إن النص فضاء مفتوح للتأويل، لا يُقرأ مرة واحدة. بل تتطور قراءته تبعاً لتطور مفاهيم القارئ ودرجة تحصيله».
وختاماً؛ في كل مرة يفاجئنا أ.د. خالد البكر بأسلوب متميز ومتفرد في نشر العلم، فمن الورش التدريبية إلى المحاضرات المباشرة إلى نشر الأبحاث والدراسات وتوزيعها، هذا الحرص على نشر العلم يثبت لنا أن للنجاح والإبداع أناساً يقدرونه ويعرفون معناه ويطربون لوصوله للناس، وهنا نقف إجلالاً واحتراماً وتقديراً لجهود مؤرخنا الفاضل، وهو أهلٌ للشكر فواجبه علينا شكره والامتنان له على عطائه، فما قام به من نشر هذه الورقات الأكاديمية ظاهرة فريدة من نوعها، وغير مسبوقة، خاصة في وسيلة تواصل اجتماعي كـ (الواتساب)، وفيها حث لكل طالب علم سواء (أستاذ - طالب - باحث)، بنشر زكاة علمه في أي وسيلة يجدها متاحة أمامه ومناسبة. وكلنا أمل أن نرى تلك الورقات الأكاديمية في مشروع تأليف كتاب «ورقات أكاديمية لكل باحث أكاديمي» في القريب العاجل - إن شاء الله - فالباحثون الأكاديميون وطلاب الدراسات العليا بحاجة إلى مثل تلك الكتب النوعية.
** **
- نوال بنت إبراهيم القحطاني