لم يكن هناك خلاف بين أهل العلم في مسألة (أهل قُبَاء)؛ فقد ورد في كثيرٍ من المصادر -أهمها الأحاديث الصحيحة- أن أهل قُبَاء الذين نزل فيهم المصطفى ًصلى الله عليه وسلم هم: بنو عَمْرو بن عَوْف بن مَالِك بن الأَوْس، ومن عَمْرو بن عَوْف تفرعت بطون أهل قُبَاء جميعًا، والنِّسْبَة إليهم: (العَمْري)، وهي شهرتهم في كثير من المصادر. والمشهور في رفع نسب الصحابة من بني عَمْرو بن عَوْف يكون إلى (العَمْري) الجد الذي تفرعت منه بطون أهل قُبَاء، وله شُهرة واسعة في فروع الأوْس من الأنصار. كما رفع نسبهم ابن سعد في «الطبقات»، وذكر منهم: (الحَارِث بن حَاطب العَمْري، سَالِم بن عُمَيْر العَمْري، أبو لُبَابة بن عَبْد المُنْذِر العَمْري، كُلْثُوم بن الهِدْم العَمْري)(1). كما رفع نسبهم ابن عبد البر في «الاستيعاب»، وذكر عددًا منهم(2)، وكما رفع نسبهم ابن الأثير في «أُسْد الغابة»، وذكر عددًا منهم(3).
وإذا رُفع نسب بعضهم إلى (الأَنْصَاري العَوْفي)، أو إلى (الأَنْصَاري الأَوْسِي العَوْفي)، أو إلى (الأَنْصَارِي الأَوْسِي القُبَائِي)؛ كما ورد عند الذهبي(4)، أو إلى (الحُنَيْفي)؛ كما ورد عند ابن سعد(5)، أو إلى (الأُمَامي)؛ لشهرة الكنية(6)، أو إلى (الأَنْصَاري العَوْفي العَمْري)؛ كما ورد عند ابن الأثير(7)؛ فإن جميعَ ذلك صحيحٌ في رفع تسلسل النَّسب إلى الجد، سواء كان اسمًا صريحًا أو لقبًا أو كُنية، لكنّ الذي ورد عن أهل العلم الثقات في كثير من المصادر -أهمها الأحاديث وكتب السيرة-، أن أهل قُبَاء شهرتهم في بني عَمْرو بن عَوْف البطن الرئيس من الأوس.
وعلى الرغم من أن قبائل الأَوْس وبطونها كلها تفرعت من (مَالِك بن الأَوْس)، فَوَلَدَ مَالِك بن الأَوْس خمسة من الأولاد، وهم: (عَوْف، وعَمْرو، وجُشَم، وامرِئُ القَيْس، ومُرَّة)؛ إلا أنه لم يرفع أحد من العلماء كل مَن ينتسب إليهم إلى (المَالِكي) مثلًا، وهو أصلٌ تفرّعت منه البطون؛ فالشُّهْرة قد تغلب على الأصل أحيانًا، وقد تكون فيه أو في البطون التي تفرعت منه، وقد تكون في غير ذلك من الألقاب والكنى، وشُهْرة (أهل قُبَاء) عُرفت أنها في بني عَمْرو بن عَوْف، وعَمْرو من ولد عَوْف بن مَالِك بن الأَوْس كما ورد في أقوال أهل النسب.
وإذا ذكر (العَمْري) في الأنصار فالمقصود به نسبة إلى بني عَمْرو بن عَوْف بن مالك بن الأوس كما أشرنا سابقًا، وإذا ذُكر (العَوْفي) في الأنصار فالمقصود به إمّا نسبة إلى بني عَوْف بن مالك بن الأوس كما ورد عند ابن الأثير في «أسد الغابة»: (2 - 387) في ترجمة: (سالم بن عمير)، وكما ورد عند الذهبي في «سير أعلام النبلاء» في ترجمة: (كلثوم بن الهدم) و(سهل بن حنيف) (1-242)، (2-325)، أو يكون نسبة إلى بني عَوْف بن الخَزْرج كما ورد في (إرواء الغليل، للألباني برقم: 1830) في الحديث الذي أخرجه أحمد والدارقطني (386)، ورواه محمد بن إسحاق: أن خناس بنت خذام بن خالد زوَّجَها أبوها خذام بن خالد رجلًا من بني عمرو بن عوف بن الخزرج، فأبت إلا أن تحُطَّ إلى أبي لُبَابة، وأَبَى أبوها إلا أن يُلْزِمَها (العَوْفي)، حتى ارتفع أمرها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هي أولى بأمرها، فأَلحقها بهواها. قال: فانتُزِعَتْ من (العَوْفي)، وتزوّجت أبا لُبَابَة... الحديث. و(أبو لُبَابة بن عَبْد المُنْذِر العَمْري) سبق ذكره عند ابن سعد.
وأمَّا شهرة بني عَوْف في الأنصار، فأكثر المصادر تذكر أنها نسبة إلى عَوْف بن الخَزْرج بن حَارِثَة، وهم ليسوا بأهل قُبَاء، وفي منازلهم مسجد الجمعة؛ حيث صُلِّيت أول جمعة في الإسلام، ومنهم بنو سَالِم بن عَوْف بن عَمْرو بن عَوْف بن الخَزْرَج، أهل مسجد الجمعة، والنِّسْبَة إليهم: (السَّالِمِي)، وهي شهرتهم في كثير من المصادر(8).
وإذا استشكل ذلك على البعض؛ فإننا لا نَنعتهم بأشباه العامة، ونَصِفهم بالغواية؛ حتى لا نخرج عن أدبيات البحث العلمي والنقد الهادف الذي مقصده الإصلاح والتقويم والحفاظ التام على ما بين الناقد والمنقود من أواصر المحبة والأخوة، ولا نتّهمهم بالقصور في فَهم النصوص؛ لأنهم تركوا الأوثق والأصح واستشهدوا ببعض المصادر التي تصف ولد عَوْف بن مَالِك بن الأَوْس بأنهم أهل قُباء، ولكن نلتمس لهم العذر في ذلك؛ لعلهم يسترشدون لإصلاح إنتاجنا الثقافي وتحريك ركوده، وإيجاد روافد جديدة بالتعمُّق في استقراء النصوص وتحليلها.
فالذي ورد في الأحاديث الصحيحة ومصادر السيرة من نصوص صريحة عن بني عَمْرو بن عَوْف أهل قُبَاء أصرح من الاستشهاد ببعض مصادر الأنساب القديمة التي ذكرت ولد مَالِك بن الأَوْس بن حَارِثَة، ووَلد عَوْف بن مَالِك بن الأَوْس كتسلسل نسبي صريح، وذكرت البطون من عمرو بن عوف المعروف بأنهم أهل قُبَاء، وأمَّا ما ورد في بعض كُتب الصحابة والطبقات؛ فالأصح فيه الرجوع إلى الأصل الذي نُقل عنه، فمثلًا الاستناد إلى «طبقات ابن سعد» في ذكر الأنصار أقدم وأصح وأشمل، ويعول عليها في النقل؛ ومما يزيد من أهمية طبقات ابن سعد توثيق المحدّثين له في كتب الجرح والتعديل، واعتماده أيضًا في «طبقاته» على ابن عمارة بن القداح وهو من أعلم الناس بأنساب الأنصار(9)، وقد وردت بعض بطون الأنصار الرئيسة في «الصحيفة» أو «وثيقة المدينة»، من الذين على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى(10)، فذكرت الصحيفة بطون الخَزْرَج بن حَارِثَة، وهم خمسة بطون: (بنو عَوْف، بنو سَاعِدة، بنو الحَارِث، بنو جُشم، بنو النَّجَّار)، ولم تذكر من بطون الأوس الكبرى إلا بطنين هما: (بنو عَمْرو بن عَوْف، بنو النَّبيت)، ثم أُدمجت باقي البطون الأوسية الأُخرى تحت اسم واحد وهو: (بنو الأَوْس). وهذا يوافق ما كانت عليه الحالة في يثرب من حيث انتشار الإسلام بها في الوقت الذي وضعت فيه الصحيفة؛ فإن بطون الخزرج كلها كانت قد دخلت في الإسلام، وحتى من لم يكن منها مؤمنًا فقد دخل في الإسلام ظاهريًّا، وأما بطون الأوس فلم يدخل منها في الإسلام إلا بنو عَمْرو بن عَوْف، وهم أهل قباء، وبنو النبيت.(11). وقد رُويت هذه الوثيقة بعدة روايات، ولم يثبت لها إسنادٌ صحيحٌ سالمٌ من علة قادحة، فهي مرسلَة ضعيفة، بأسانيد ساقطة، وهذا من حيث ثبوتها، وأمّا فقراتها فلها شواهد في المصادر، يطول التفصيل فيها. وقد وردت أقوال صريحة لأهل العلم تنصّ على أن أهل قُبَاء هم بنو عَمْرو بن عَوْف، كما أنهم ذُكروا في مواضع كثيرة في المصادر تذكرهم كبطن رئيس من الأوس، وتذكر بعض فروعهم، ومن ينتسب إليهم، وسأوضّح هذه المسألة في الآتي:
أولًا: أقوال أهل الحديث والسيرة
النبوية في أهل قُبَاء:
وردت نصوص صريحة في الأحاديث الصحيحة والسيرة النبوية تنصّ على أن أهل قُبَاء هم: بنو عَمْرو بن عَوْف، ونذكر منها:
1- عن أَنَس بن مَالِك -رضي الله عنه- قال: «قَدِم النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم المدينة فنزل أعْلَى المدينة في حَيٍّ يُقَالُ لَهُمْ بَنُو عَمْرو بن عَوْف... الحديث». صحيح البخاري، برقم: (428) و(3932)؛ صحيح مسلم، برقم: (524).
2- وعن سَهْل بن سعد -رضي الله عنه- قال: «بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّ بني عمرو بن عوف بقُبَاء كان بينهم شيءٌ، فخرج يُصْلِح بينهم في أناسٍ من أصحابه... الحديث». صحيح البخاري، برقم: (1218)؛ صحيح مسلم، برقم: (432). وأورده العيني في «عمدة القاري» برقم: (684): «عن أبي حَازِم بن دِينَار عن سَهْل بن سَعْد السَّاعِدي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذهب إلى بني عَمْرو بن عَوْف ليصلح بينهم...». قال العيني في ذِكر مَعْنَاه: قَوْله: إِلَى (بني عَمْرو بن عَوْف) هم: من ولد مَالك بن الْأَوْس، وَكَانُوا بقباء، والأوس إحدى قبيلتي الْأَنْصَار، وهما: الْأَوْس والخزرج، وَبَنُو عَمْرو بن عَوْف بطن كثير من الْأَوْس فِيهِ عدَّة أَحيَاء؛ مِنْهُم: بَنو أُميَّة بن زيد، وَبَنُو ضبيعة بن زيد، وَبَنُو ثَعْلَبَة بن عَمْرو بن عَوْف... إلخ.
3- روى الطبراني (ت360هـ)، في «المعجم الكبير»، برقم: (5926): عن أبي حازم قال: «كنت عند سهل بن سعد الساعدي، إذ قيل له: كان بين بني عمرو بن عوف أهل قباء شيء، فقال: قديم قد كان ذلك، كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ جيء فقيل له: قد صار بين أهل قباء شيء... الحديث».
4- قال ابن إسحاق (ت151هـ): «فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بقُباء، في بني عَمْرو بن عَوْف». وذكرهم في عدة مواضع في سيرته التي هذَّبها ابن هشام. السيرة النبوية: (2-133).
5- قال ابن هشام (ت213 أو 218هـ) في هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة: «ثُمَّ قَدِمَ بِهِمَا -أي: مَسْعُود بن هُنَيْدَة- قُباء عَلَى بَنِي عَمرو بن عَوْف». السيرة النبوية: (2-139).
6- قال ابن حجر (ت852هـ)، عن أهل قُبَاء: «وَهُمْ بَنُو عَمْرو بن عَوْفٍ أَهْلُ قُبَاء». وقال أيضًا: «لَيْس أَنَس من بني عَمْرو بن عَوْفٍ؛ فإنَّهم مِنَ الْأَوْسِ، وَأَنَسٌ مِنَ الْخَزْرَج»، وقال: «عن عُرْوَة قال: الذين بنى فيهم المسجد الذي أُسِّس على التَّقوى هُم: بَنُو عَمْرو بن عَوْف». وقال في موضع آخر: «قولهُ في عُلْوِ المدينة كُلّ ما في جهة نَجْدٍ يُسمَّى العَالِيَة، وما في جهةِ تِهَامَة يُسمَّى السَّافِلَة، وقُبَاء من عَوَالِي المدينة، وأخذ من نُزُولِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم التَّفاؤُل لَهُ ولِدينهِ بالعُلوّ. قولهُ يُقَالُ لَهُمْ: بَنُو عَمْرو بن عَوْف، أَي: ابن مَالك بن الأَوْس بن حَارِثَة». فتح الباري: (1-506)، (7-244-245)، (7-266).
ثانيًا: أقوال النّسّابة في أهل قُبَاء:
جاء نسب الأنصار في أكثر المؤلفات القديمة، سواءً أكانت للأنساب أم تاريخًا للصحابة، أم غيرها من المصادر الأخرى، ونذكر ما ورد عن أهل قُبَاء في بعضها:
1- قال ابن الكلبي (ت204هـ): فَوَلَد الأَوْس: مَالِكًا، وأُمُّهُ: هِنْد بِنْت سُود بن كَاهِل بن عُذْرَة. فَوَلَد مَالِك بن الأَوْس: عَوْفًا، وهم أَهْلُ قُبَاء... إلخ، ثم عدّد بقية أبناء مَالِك بن الأَوْس، ثم قال: فَوَلَد عَوْف بن مَالِك بن الأَوْس: عَمْرًا بطن، والحَارِث بطن في بني أُمَيَّة بن زَيْد. ثم قال في نهاية نسبهم: فهؤلاء من وَلَدِ عَوْف بن مَالِك بن الأَوْس وهم أهل قُبَاء. جمهرة النسب: (3-621-633). قلت: ابن الكلبي ذكر عَوْفًا كجد، وعَمْرًا كبطن، وهذه عادته غالبًا للتفريق، وهو توضيحٌ لتسلسل النّسب، وتفريقٌ لرفع النَّسب، وهي عادة العرب في الانتساب إلى اليوم. وقد نقل عنه ابن حزم في «جمهرته»، (2-332): نسب الأنصار، وذكر بنو الأَوْس بن حَارِثَة، ثم قال: «وهؤلاء بنو عَوْف بن مَالِك بن الأَوْس بن حَارِثَة. وهم أَهْلُ قُبَاء. ولدُ عَوْف بن مَالِك بن الأَوْس: عَمْرو بن عَوْف؛ والحَارِث بن عَوْف، دخل بنوه في بني أُميّة بن زَيْد». ثم قال: «وهؤلاء بنو عَمْرو بن عَوْف بن مَالِك بن الأَوْس». فعدّدهم. وذكر في موضع آخر (2-470) قبائل اليمن، ومنهم بطون الأنصار، ثم بطون الأوس، وقال: «وهذه بُطون بني عَوْف بن مالك بن الأوْس، وهم أَهْلُ قُبَاء: بنو عمرو بن عَوْف؛ ولبني عمرو بن عَوْف بطونٌ». فعددهم ولم يذكر بني الحارث بن عَوْف، وقد أشار قبل هذا إلى أن بَنِيهِ دخلوا في بني أمية بن زيد. علمًا بأن بني أمية بن زيد فرعان؛ أحدهما: بنو أُمَيَّة بن زَيْد بن مَالِك بن عَوْف بن عَمْرو بن عَوْف بن مَالِك بن الأَوْس. والآخر: بنو أُمَيَّة بن زَيْد بن قَيْس بن عَامِر بن مُرَّة (الجَعَادِرة) بن مَالِك بن الأَوْس، وهم ليسوا من أهل قُبَاء، ودارهم المعروفة بهم التي بها الكَبّا المواجهة لمسجد بني أمية. ينظر: وفاء الوفا، للسمهودي: (1- 353). وقد جمعت أنساب الأنصار ولم أقف على صحابي يتصل نسبه إلى الحَارِث بن عَوْف.
2- ذكر ابن قتيبة (ت276هـ) نسب الأوس وتفريعاتهم، فذكر (عَوْف بن مَالِك)، وقال: ومنهم: بنو عَمْرو بن عَوْف، أهل قُبَاء. المعارف، (ص110-111).
3- ذكر ابن دُرَيْد (ت321هـ) في الاشتقاق (ص437): بطون الأوس ورجالهم وقال: «وَلَدَ مالكٌ: عوفًا، وهم أهلُ قُباء؛ وعمرًا، وهو النَّبيت؛ ومُرَّة وهم الجَعَادرة». وذكر بعض البطون وعددَ مَن كان منهم مِن الصحابة، ولم يذكر البطنين الآخرين الرئيسين في الأوس، وخلط في أنساب بعضهم، كقوله: «ومن بني جُشَم بن عوف: سَهلٌ، وعثمانُ وعبَّادٌ: بنو حُنَيف». (ص442). والصواب ما قاله ابن سعد: «ومِنْ بني حَنَش بن عَوْف بن عَمْرو بن عَوْف، وهم من أَهْل المسجد -يعني مسجد قباء- : سَهْل بن حُنَيْف بن وَاهِب... إلخ». الطبقات: (3-358). (طبقات خليفة: 153-254).
4- ذكر ابن عبد البر (ت463هـ) بطون الأوس وتفريعاتهم، وقال: «وفي الأوس بطون كثيرة، منهم: بنو عَوْف بن مَالك بن الأَوْس، ومنهم: بنو ضبيعة، وبنو عمرو بن عوف بن الخزرج بن عمرو بن مالك بن الأوس، وهم أهل قُبَاء، وفيهم بطون كثيرة»، فدمج فروع بني عمرو بن عوف أهل قباء في فروع بني عمرو (النبيت) ابن مالك، ودمج -أيضًا- بعض الفروع في أخرى، ولم يذكر بنو مُرَّة بن مالك(12).
5- ذكر العوتبي الصُّحاري (ت511هـ) أنساب الأنصار، ونقل عن ابن الكلبي كما ورد عنه في بعض النصوص، إلا أنه خلط في بعض أنسابهم، والشرح في ذلك يطول، قال: «فمن مالك تفرّقت قبائل الأوس وبطونها. فولد مالك بن الأوس خمسة رهط». فعدّدهم وأضاف فرعًا سادسًا، وهو (سَالِم بن مالك)، وسمّاه (واقفًا)، وقد قال قبل هذا: فولد مالك بن الأوس خمسة رهط، وهو الصواب! والمعروف أن واقفًا مختلَفٌ فيه(13). ثم قال: «فهذه النبيت، وهم سكان قُبَاء. ومن بني مالك بن الأوس: عَوْف بن مالك، وولده يعرفون ببني عَوْف، وهم أهل قُبَاء أيضًا مع النبيت». ثم ساق العوتبي بقية بطون الأوس، وفصَّل فيهم، وقد خلط في بعض الفروع ودمجها في فروع أخرى، مثل قوله: «فولد ظفر هُثَيمًا، فولد هُثَيم سَوادًا، فمنه تفرّقت أولاد ظفر»! والصواب: ما قاله ابن عمارة القداح: «وَوَلد كعب بن الخزرج بن عمرو بن مالك بن الأوس وَهوَ ظفر: أربعة نفر: سوادًا وعَبْد رِزَاح والهَيْثم وَمرًّا». ينظر: تاريخ دمشق: (6-163). وقوله: «وَوَلَد عبد الأشهل بن جُشم بن الحارث بن الخزرج: زيدًا، وزَعُوراء، وكعبًا، وحريش، بني عبد الأشهل»! والصواب: أن (حريشًا) من ولد جشم بن الحارث بن الخزرج بن عمرو النبيت(14). وقال العوتبي ــ أيضًا: «وأمَّا عَوْف بن مَالِك بن الأَوْس.. فولد رجلًا: عَمْرو بن عَوْف، فولد عَمْرو بن عَوْف أربعة: عوفًا، وثعلبة، ولَوذان، وحبيب، بني عَمْرو بن عَوْف». قلت: ولم يذكر العوتبي: (الحارث بن عوف) الذي دخل بنوه في بني أميّة بن زيد. وقِسْ على ذلك بما ذكره العوتبي في نسب الأوس مع بقية الفروع، علمًا بأنه قد أخطأ -أيضًا- وخالف جميع ما في كتب التاريخ والأنساب بقوله: «فهذه النَّبيت، وهم سُكَّان قُبَاء»(1 5).
6- قال النووي (ت676هـ): «بنو عمرو بن عوف: ذكرهم في المهذب في صلاة الجمعة، قبيلة معروفة من الأنصار -رضي الله عنهم- يُنْسَبون إلى عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس، وكان يسكنون قباء»(16).
ثالثًا: أقوال أهل العلم في بني عَمْرو بن عَوْف من الأوس:
وردت نصوص كثيرة صريحة في المصادر توضح أن بني عَمْرو بن عَوْف بطن رئيس من الأوس، وتذكر الصحابة الذين ينتسبون إليهم، ونذكر منها:
1- ورد في صحيح مسلم برقم: (2769) في «باب حديث توبة كعب بن مالك وصاحبيه»، حِينَ تَخَلَّفَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، وذكر منهم: (مُرَارَة بن الرَّبيعَة العَامِري). وعلق عليه النووي في شرح صحيح مسلم: (17-76)؛ وقال: «هكذا في جميع نُسخ مسلم: (العامري)، وأنكره العلماء، وقالوا: هو غلط، إنما صوابه: (العَمْري) -بفتح العين وإسكان الميم- من بني عمرو بن عوف، وكذا ذكره البخاري، وكذا نسبه محمد بن إسحاق وابن عبد البر وغيرهما من الأئمة».
2- ذكر الواقدي (ت207هـ) في «المغازي» بني عمرو بن عوف في عدة مواضع، وأشار في بعضها إلى مَن استُشهد منهم في الغزوات والسرايا، وإلى حَمَلة الرايات منهم، وإلى سَهمهم في قسم المغنم وبيعه. ينظر: (1-146)، (1-301-303)، (2-521)، (3-896).
3- قال خليفة بن خياط (ت240هـ) في «طبقاته»، (ص152): «وولد عَوْف بن مَالِك بن الأوس: عمرو بطن، والحارث بطن، فولد عَمْرو بن عَوْف بن مَالِك: عَوْفًا، وثَعْلَبَة، ولَوْذَان بنو السميعة بها يُعرفون، وحبيبًا، ووائلًا، بني عَمْرو بن عَوْف».
4- عدّد ابن شبة (ت262هـ) في «تاريخ المدينة»: من كان مع عثمان -رضي الله عنه- وذكر: أَهْل دَارَيْن مِنَ الْأَوْس؛ بَنُو عَمْرو بن عَوْف، وَبَنُو حَارِثَة، وفي موضع آخر روى عن شيخٍ من بني النُّعْمَان يقال له مجمع قال: «نزلت هذه الآية في آبائي: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [التوبة:108] في بني عَمْرو بن عَوْف، وهم آبائي، وهم أهل قباء». تاريخ المدينة: (1-47)، (4-1280).
5- ذكر البلاذري (ت279هـ) في «أنساب الأشراف» قدوم الرسول صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَة فقال: «فكبَّر بنو عَمْرو بن عَوْف بن مَالِك بن الأَوْس تكبيرة رَجُل واحد. فصار رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى بني عَمْرو بن عوف، فنزل فيهم على كلثوم بن الهِدم بن امرئ القيس، من ولد عَمْرو بن عوف، بقُباء. وذلك الثبت». أنساب الأشراف: (1-263).
6- ذكر ابن عبد ربه (ت328هـ) بطون الأوس، وقال: «فمن بطون الأَوْس والخَزْرَج وجماهيرها: عَمْرو بن عَوْف بن مَالِك بن الأَوْس... إلخ». العقد الفريد: (3-326-328).
7- ذكر ابن القيسراني (ت507هـ) العَمْري، وقال: «العَمْري: بفتح العين». وذكر: (زَيْد بن جَارِيَة العَمْري الأَوْسِي). المؤتلف والمختلف، (ص187).
8- قال السمعاني (ت562هـ): «(العَمْري) -بفتح العين المهملة وسكون الميم وكسر الراء-، هذه النسبة إلى ثلاثة رجال: (عبد الرحمن بن يزيد بن جارية) ــ أخو مجمّع بن يزيد ــ الأنصاري العَمْري، من بني عَمْرو بن عَوْف، يروي عنهما القاسم بن محمد، و(مرارة بن الرَّبيع العَمْري)، من بني عَمْرو بن عَوْف ــ أيضًا، أحد الثلاثة الذين خُلّفوا ثم تاب الله عليهم». الأنساب: (9-371).
9- أخبر ابن عساكر (ت571هـ) في «تاريخ دمشق»: «عن عبد الله، قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجد بني عَمْرو بن عَوْف مسجد قُبَاء يصلي فيه، فدخلت عليه، وجاءت الأنصار يسلمون عليه... إلخ». وذكر في ترجمة عبد الله بن سلام وخبر إسلامه، أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة نزل بقباء في بني عمرو بن عوف. تاريخ دمشق: (19-275)، (29-109).
10- قال الحازمي (ت584هـ): «العَمْري منسوب إلى عَمْرو بن عَوْف بن مَالِك بن أَوْس، بطن من الأنصار، منهم مُجَمِّع بن جَارِيَة وأهله، وجماعة سواهم». عجالة المبتدي: (94).
11- قال ابن الأثير (ت630هـ): «العَمْري بِفَتْح العين المُهْملَة وسُكُون المِيم وفي آخرها راء ــ هذه النِّسْبَة إلى عَمْرو بن عَوْف بطن من الأَنْصَار منهم (عبد الرَّحْمَن بن يزِيد بن جَارِيَة) يروي عَنهُ (القَاسِم بن مُحَمَّد) و(مرارة بن الرَّبيع العمري) أحد الثَّلَاثَة الَّذين خُلّفوا»(22). اللباب في تهذيب الأنساب: (2-358).
12- ذكر الذهبي (ت748هـ) «أَمر الذين خُلِّفُوا» عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، وذكر منهم: (مُرَارَة بن الرَّبيع العَمْري). سير أعلام النبلاء: (2-254).
13- قال ابن حجر عن (مُرَارَة بن الرَّبِيع العَمْرَي): «قولُهُ مُرَارَةُ بضم المِيم ورَائيْن الأُولَى خفيفة، وقولهُ العَمْرِي بفتح المُهْمَلَة وسُكُون الميم نِسْبَة إلى بنِي عَمْرو بن عَوْف بن مَالِك بن الأَوْس». فتح الباري: (8-119).
14- قال العيني (ت855هـ): «قَوْله: (مُرَارَة)، بِضَم المِيم وَتَخْفِيف الرائين: ابن الرّبيع، وَيُقَال: ابن ربيعَة العَمْرِي نِسْبَة إلى بني عَمْرو بن عَوْف بن مَالِك بن الأَوْس، وقال: لأنهُ كان من بني عَمْرو بن عَوْف». عمدة القاري: (18-53).
15- قال السيوطي (ت911هـ): «العَمْري: بالفتح والسكون إلى عَمْرو بن عَامِر بن ربيعة، وعَمْرو بن عَوْف بطن من الأنصار... إلخ». لب اللباب في تحرير الأنساب، (ص182).
رابعًا: ما ورد في الشعر عن بني
عمرو بن عوف:
هناك شواهد من الشعر تذكر بعض قصص بني عمرو بن عوف، ومنها: شعر كعب بن مالك في النُّقبَاء(17): قَال ابن هِشَام: وقال كَعْب بن مَالِك يَذْكُرُهُم، فيما أَنْشَدَنِي أَبُو زَيْدٍ الْأَنْصَارِي(18):
وَسَعْدٌ أَخُو عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ فَإِنَّهُ
ضَرُوحٌ لِمَا حَاوَلْتَ مِلْأَمْرِ مَانِعُ
ومنها أبيات لأبي سُفيان بن حرب عندما عَدا على ابن أكَّال أَخي بَنِي عَمرو بْنِ عَوْف، ثُمَّ أَحَد بَنِي مُعَاوِيَةَ وهو معتمرٌ بِمَكَّة، فَحَبَسَهُ بِابْنِهِ عَمْرو، ثُمَّ قَالَ:
أرهطَ ابنِ أكَّالٍ أَجِيبُوا دُعاءَه
تَعَاقَدْتُمْ لَا تُسلموا السَّيدَ الكَهْلاَ
فَإِنَّ بَنِي عَمْرو لئامٌ أذِلةٌ
لَئِنْ لَمْ يَفُكُّوا عَنْ أسيرِهم الكَبْلا
فَأَجَابَهُ حَسَّان بن ثَابِتٍ فَقَالَ:
لَوْ كَانَ سَعْدٌ يومَ مكةَ مُطلقًا
لَأَكْثَرَ فيكم قبلَ أَنْ يُؤْسَرَ القَتْلا
بعَضْبٍ حُسَامٍ أَوْ بصفراءَ نبعةٍ
تحنُّ إذَا مَا أنْبِضَتْ تَحْفِزُ النَّبلا
ومشى بَنُو عَمْرو بن عَوْفٍ إلَى رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فأخبروهُ خبرهُ، وسألوهُ أن يعطيَهم عَمْرو بن أَبِي سُفْيَان فَيَفُكّون بِهِ صَاحِبَهُمْ، فَفَعَلَ رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: فَبَعَثُوا بِهِ إلَى أَبِي سُفْيَان، فَخَلَّى سَبِيل سعد(19).
ومنها أبيات حسَّان بن ثابت -رضي الله عنه- من قصيدته «نسوا وصية محمد صلى الله عليه وسلم» التي أولها:
أَوْفَتْ بَنُو عَمْرو بْنِ عَوْفٍ نَذْرَهَا
وَتَلَوَّثَتْ غَدْرًا بَنُو النَّجَّارِ
إلى أن قال في آخر القصيدة:
حَاشَا بَني عَمروِ بنِ عَوفٍ إِنَّهُم
كُتِبَت مَضاجِعُهُم مَعَ الأَبرارِ
علمًا بأن الحافظ ابن عساكر (ت:571هـ) في «تاريخ دمشق» يرى أن حسّان بن ثَابِت انتحل الأبيات -أي استشهد بها-، وأنها لحنظلة بن الربيع التميمي عندما بلغه قتل عثمان(20)، وَأَيًّا كان فهي شاهد ما بعده شاهد، والأبيات من قصيدة في ديوان حسان بن ثابت يرثي بها عثمان بن عفان -رضي الله عنه-(21).
وفي ختام هذا المقال يتضح أنّ أهل قباء في عصر النبوّة والخلفاء الراشدين هم: بنو عَمْرو بن عَوْف بن مَالِك بن الأَوْس، والنِّسْبَة إليهم: (العَمْري)، وهي شهرتهم في كثير من المصادر، وإذا ذُكِرَ بنو عَوْفٍ من الأنصار فالمقصود بهم بنو عَوْف بن الخَزْرَج بن حَارِثَة، وهم ليسوا بأهل قُبَاء، وفي منازلهم مسجد الجمعة؛ حيث صُلِّيت أول جمعة في الإسلام. وحَرِيٌّ بالعاقل أن يسترشد حين يرى المصادر الموثوقة.
الهوامش:
(1) الطبقات الكبرى: (2-8)، (2-21)، (2-22)، (3-467-468).
(2) الاستيعاب: (2-540)، (3-1262)، (3-1382).
(3) أسد الغابة: (1-507)، (2-349)، (2-387)، (4-346)، (5-129).
(4) سير أعلام النبلاء: (1-242)، (2-32)، (2-320).
(5) الطبقات الكبرى: (5-479).
(6) الإصابة، (5-260)، (17-254).
(7) أسد الغابة: (2-387).
(8) سيرة ابن إسحاق، (ص315)؛ مغازي الواقدي: (1-166)؛ إرواء الغليل، للألباني، برقم: (1830)؛ الاستيعاب: (2-807)؛ الطبقات: (2-125)، (5-214)؛ مسند أحمد: (4-186)؛ أسد الغابة: (2-287)؛ جمهرة أنساب العرب، لابن حزم: (1-471).
(9) يُنظر: أسد الغابة، (1-615)؛ التجريد: (1-69).
(10) السيرة النبوية، لابن هشام: (2-143-146).
(11) مكة والمدينة في الجاهلية وعهد الرسول، أحمد الشريف، (ص414-417).
(12) الإنباه على قبائل الرواة، لابن عبدالبر، (ص104).
(13) يُنظر: جمهرة النسب: (3-644)؛ نسب معد: (1-385)؛ جمهرة ابن حزم: (2-344)؛ الطبقات الكبير، لابن سعد: (4-315).
(14) الأنساب، للصحاري، (2-533-553).
(15) الأنساب، للصحاري، (2-544).
(16) تهذيب الأسماء واللغات، للنووي: (2-291).
(17) السيرة النبوية، لابن هشام: (2-91-92)؛ الطبقات الكبير: (3-446)، (3-561).
(18) هو سَعِيد بن أَوْس بن ثَابِت بن بَشِير بن أبي زَيْد بن ثَابِت بن زَيْد بن قَيْس بن زَيْد بن النُّعْمَان بن مَالِك (الأغَرّ)، يُكَنَّى أبا زَيْد، البصري، النحوي، الأخباري، وكان ثقة ثبتًا من أهل البصرة، مات سنة خمس عشرة ومِئتين، وله أربع وتسعون سنة. تاريخ مدينة السلام (تاريخ بغداد)، للخطيب البغدادي: (10-109-110).
(19) السيرة النبوية، لابن هشام: (2-292-293).
(20) تاريخ دمشق، لابن عساكر: (39-542).
(21) ديوان حسان بن ثابت، (ص111-112).
** **
- بندر بن حسين الزبالي الحربي