د.عبدالله بن موسى الطاير
الاتصالات الهاتفية التي أجراها الرئيس جو بايدن بقادة الدول المؤثِّرة في الشرق الأوسط، وبخاصة المملكة تذكِّرني باتصالات باراك أوباما في اللحظات الأخيرة التي سبقت توقيع خطة العمل الشاملة المشتركة (JCPOA) بشأن الأنشطة النووية الإيرانية في فيينا، في 14 يونيو 2015، وتم تبنيها من قبل مجلس الأمن الدولي في القرار 2231 في 20 يوليو 2015 .
كان الرئيس بايدن جزءاً من هذا الاتفاق حين كان نائباً لأوباما، وخلال حملته الانتخابية أدلى بتصريحات متكرِّرة بشأنه، وعندما تولى الرئاسة اتخذ مواقف جدية من الملف، وصعَّده ليكون واحداً من أهم قضايا الشؤون الخارجية الأمريكية. فما الذي يحاول الرئيس الأمريكي وإدارته إنقاذه في هذا الاتفاق الذي انسحب منه سلفه في مايو 2018؟
قبل الشروع في الإجابة يجدر التوقف عند ذلك الضعف الأمريكي في مقابل إيران، واستجدائها المتكرر للعودة إلى الاتفاق النووي، واستعدادها لدفع أي ثمن وفق ما تقرّره إيران التي أطنبت في التمنع، بل وصل صلفها حد الإهانة للطرف الأمريكي، وسط استغراب ودهشة من قبول دولة عظمى كالولايات المتحدة بهذا السلوك الإيراني؛ وليس آخر تلك الإهانات رفض إيران الجلوس المباشر مع المفاوض الأمريكي وكأنه رجس من عمل الشيطان، على الرغم من انتقاء أمريكا كبير مفاوضيها بحذر شديد لدرجة تم وصفه من بعض مناوئي بايدن بأنه مفاوض إيراني أكثر منه أمريكي، إضافة إلى توخي المسؤولين الأمريكيين أقصى درجات الحذر في تصريحاتهم، وانتقاء مفرداتهم بعناية فائقة عندما يتم الحديث عن هذا الشأن.
وفي الإجابة عن السؤال السابق، هناك عدة احتمالات تفسر الاندفاع الأمريكي، والتشبث المستميت بالعودة إلى خطة العمل المشتركة مع إيران. الاحتمال الأكثر سطحية يتمثَّل في موقف الإدارة الحالية من كل قرار اتخذه الرئيس ترامب، أو توجه عُرف به، أو صفقة أبرمها، أو صداقة أنشأها؛ فقد أخذت الإدارة الديمقراطية على عاتقها الانقلاب على الرئيس ترامب والعمل عكس مساره في السياسة الخارجية. أما الاحتمال الثاني فهو قناعة مؤسسية راسخة بحتمية المحافظة على توازن القوى الإقليمية في الشرق الأوسط، فالسعودية بالنسبة للمخططين الإستراتيجيين الأمريكيين قوة مهيمنة على العرب السنة، ومرجعية سنية لنحو 85 % من المسلمين السنة حول العالم، ولا بد للولايات المتحدة من إعادة إدماج إيران في المجتمع الدولي لتمثّل الأقلية الشيعية في مواجهة الأكثرية السنية. وهي عقيدة سياسية قديمة كانت من أحد أسباب التخلي عن الشاه الذي فشل في تقوية مركزية طهران كقاعدة سياسية وعقائدية للشيعة حول العالم، ولذلك مهدت الدول الغربية ومنها أمريكا الطريق لولاية الفقيه التي أدت خلال 43 عاماً دوراً أفضل بكثير من الشاه في مجال الاستقطاب الطائفي في المنطقة. هذا الاحتمال يدعمه موقف بول بريمر عندما صرَّح بأن أمريكا حرّرت العراق من الحكم العربي السني الذي دام عدة قرون.
وربما يكون من الأهداف بعيدة المدى التي يسوقها أنصار العودة إلى الاتفاق النووي مع إيران القول إن إدماج إيران في محيطها الدولي سيؤدي لا محالة إلى انفتاح الداخل الإيراني على منتجات وخدمات العولمة وبالتالي إمكانية إحداث تغييرات مهمة في بنية نظام الحكم في طهران، تمهيداً لحمل إيران على التحول من الثورة إلى الدولة بدون الحاجة إلى ثورة معاكسة لثورة الخميني. وعلى الرغم من وجاهة هذا الاحتمال إلى أن النظام وحرسه مدركون لخطورته، ويتذكّرون أن انفتاح الشاه على الوصفة الأمريكية التي تمثّلت في الثورة البيضاء كانت سبباً في زوال النظام الملكي، ولذلك فإنهم لن يكرروا الخطأ نفسه. ولن نشاهد قريباً تسابق الشركات الأمريكية الضخمة على إعادة بناء المدن الإيرانية، وإنما ستجني الشركات الصينية والروسية ثمار توقيع الاتفاقية أكثر من نظيرتها الأمريكية، مما يصعب فهم النوايا الأمريكية من هذه التنازلات التي تقدمها صاغرة أمام التعنّت الإيراني.
لا أستسيغ وضع خفض أسعار النفط احتمالاً قائماً بذاته في تفسير هذا الاندفاع الأمريكي نحو العودة إلى الاتفاق النووي، ذلك أن إيران جزء من تكتل أوبك+ ولن تجازف بمخالفة روسيا من أجل الولايات المتحدة الأمريكية، إضافة إلى الصعوبات التقنية التي تعيق العودة السريعة للإنتاج النفطي الذي يفي بحصة إيران في سوق النفط ويؤثِّر على الأسعار.
إذا كانت إيران على بعد أسابيع من إنتاج قنبلتها النووية، فإن أي اتفاق لن يحرمها من المعرفة التي اكتسبتها، ولذلك فإن تقديم العودة إلى الاتفاقية على أنها ستحرم إيران من امتلاك السلاح النووي هو مبرر يعوزه المنطق.