عبدالرحمن الحبيب
«ابقوا أعينكم على شيء واحد وشيء واحد فقط: كم تنفق الحكومة» ميلتون فريدمان الحائز على نوبل للاقتصاد (1976)؛ اليوم عينا فريدمان ستجحظان على حد تعبير مجلة الإيكونيميست التي تذكر أن الحكومات أنفقت 17 تريليون دولار على وباء كورونا، بما في ذلك القروض والضمانات، ليصبح المجموع الكلي 16 % من الناتج المحلي الإجمالي العالمي. وسيكون الإنفاق الحكومي كحصة من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2026 أكبر مما كان عليه في عام 2006 في كل اقتصاد متقدم رئيسي، وفقًا للتوقعات الحالية. أمريكا على وشك أن تخصص 1.8 تريليون دولار لتوسيع دولة الرفاهية الخاصة بها، فيما توزع أوروبا صندوق استثمار بقيمة 850 مليار دولار؛ وتعد اليابان بـ»رأسمالية جديدة»، مع المزيد من الهبات الحكومية. تقول الإيكونيميست أن العالم يدخل حقبة جديدة من الحكومات الضخمة، وان البيروقراطية أصبحت لا محدودة.
يطلق مصطلح الحكومة الضخمة (Big government) على سبيل الانتقاد عندما يتوسع تدخل الحكومة في الاقتصادات الرأسمالية بحجة أن زيادة تضخم الحكومة يقترن بانخفاض كفاءتها وزيادة التكلفة والفساد وإعاقة نمو القطاع الخاص والتدخل في سلوكيات الأفراد الخاصة مثل الخيارات الغذائية والصحية. هذه الادعاءات تأتي من فريق الرأسماليين المحافظين ودعاة الاقتصاد الحر أو ما يسمون «الليبراليون الجدد) الذين يرون ضرورة تقليص تدخل الدولة في الاقتصاد إلى الحد الأدنى ونموذجهم الأشهر مارجريت تاتشر في بريطانيا ورونالد ريغان في أمريكا في سبعينات وثمانينات القرن الماضي.
الإيكونيميست تمثل نفس هذا التيار وأظهرت انزعاجاً في تقريرها من زيادة تدخل الحكومات في الاقتصاد، وترى أنه في العقود المقبلة ستتوسع البصمة الاقتصادية للدولة أكثر من ذلك؛ والآن يخضع أربعة أخماس الاقتصاد العالمي لهدف الانبعاثات الصفرية، ولا بد من دعم الدولة لإزالة الكربون، فيما العديد من بلدان الاقتصاد المتقدم لديها شيخوخة سكانية ستطالب بمزيد من الإنفاق الحكومي على الرعاية الصحية والمعاشات التقاعدية.
يقول التقرير إن التهديد الطويل الأمد لحكومة متضخمة هو أن تصبح البيروقراطية والفشل المؤسسي والفساد روتينية وواسعة الانتشار. ولكن هذه المخاطر تختلط بفرص سانحة. لفهم ذلك، علينا التفكير في سبب تضخم الحكومة. توسع الدولة مع مرور الوقت مرتبط غالباً بالناتج المحلي الإجمالي، وهناك ثلاث قوى في ذلك حسب الإيكونيميست. الأولى ضارة بشكل واضح، تتمثل في الجمود وبطء سير العمل.
القوة الثانية في أسعار الخدمات التي تقدمها الدول للرعاية الاجتماعية، مثل الصحة والتعليم، إذ تنمو بوتيرة أسرع من الاقتصاد بسبب كثافة اليد العاملة العالية وانخفاض معدلات زيادة الإنتاجية. القوة الثالثة هي أن الحكومات اليوم لديها المزيد من الأشياء التي يتعين القيام بها؛ ومع غنى المواطنين خلال القرن العشرين، طالبوا بمزيد من التعليم والمزيد من الرعاية الصحية المكلفة التي تستفيد من أحدث التطورات العلمية. واليوم، ومع تقدمهم في السن، يريدون مواصلة الإنفاق على المسنين. وعلى نحو متزايد، يريدون من الحكومات أن تفعل شيئا حيال تغير المناخ.
ثمة توافق في الآراء بشأن الدور المحدود للحكومة في المجتمعات الرأسمالية، ويرحب أتباعها بالأسواق الحرة في معظم هذه الاقتصادات، ولكنهم سمحوا بإعادة التوزيع والإنفاق على الخدمات العامة لجعل العالم أكثر عدلا. لكن اليوم، يتعرض هذا الإجماع للتهديد في الوقت الذي تشتد فيه الحاجة إليه؛ نظرًا لأن الشيخوخة وتغير المناخ يؤديان إلى زيادة حجم الحكومة بشكل لا يقاوم، فمن الضروري إدراك ما يمكن للدولة أن تفعله جيدًا وما لا يمكنها القيام به، وتجنب تضخمها المفرط وإساءة استخدامه. ينبغي أن تكون حجة الحكومة المحدودة اليوم حول طبيعة تدخلات الدولة، وليس ما إذا كان الحد من ظاهرة الاحتباس الحراري أو توفير رعاية للمسنين ضروريين.
وتتمثل إحدى المهام في تعظيم دور الأسواق والاختيار الفردي، حسب الإيكونيميست التي ترى أنه ينبغي محاربة تغير المناخ بسعر للكربون، وإعانات البحث والتطوير، والاستثمارات العامة التي تخضع لتدقيق شديد، وليس عن طريق تقنين الرحلات الجوية، أو تشجيع الأبطال الوطنيين الخضر، أو تجنيد المصارف المركزية لتشويه الأسواق المالية. ويتعين على دولة الرفاهية أن تركز على إعادة توزيع النقد والسماح للمحتاجين باختيار ما يجب القيام به معها، وليس إنشاء بيروقراطيات جديدة..
ينبغي على الدول أيضاً السعي إلى أن تكون ذكية وفعالة، وأن يكون دعم الدخل للأسر المعيشية آليا حيثما أمكن كلما أصبح القطاع المالي رقمياً أكثر. ويمكن القضاء على الكثير من تعبئة النماذج الورقية، مثلما أظهرت حرب إستونيا على الأوراق. وإذا كان هناك عدد أقل من البيروقراطيين ذوي الأجور الأفضل، فإن القطاع العام يمكن أن يجتذب المزيد من الموظفين الموهوبين. ويتعين على الساسة أن يكونوا على استعداد للبدء إدارياً من جديد عند معالجة المشاكل الجديدة، بدلاً من الاعتماد على الإدارات الحالية الباهتة. وقد جاءت أكبر نجاحات الحكومات خلال هذا الوباء من الشركات الناشئة الداخلية مثل عملية وارب سبيد، التي ساعدت في تطوير أمريكا للقاحات. في القرن العشرين، ضمن الليبراليين الكلاسيكيين في الاقتصاد أن يكون نمو الحكومة مصحوبا بتقدم البشرية، الشيء نفسه قد يكون صحيحاً حتى الآن في القرن الحادي والعشرين، حسب التقرير.