حَبيبٌ عنَ الأَحبابِ شَطَّت بِهِ النَوى
وَأَيُّ حَبيبٍ ما أَتى دونَهُ البُعدُ
ما من شك أن رحيل العلماء إلى الدار الآخرة أمر محزن جدّاً، تاركاً فراغاً واسعاً وفجوةً يصعبُ ردمها، ولا سيما من كان له دور ريادي في تنوير صدور النشء بعلومهم العذبة، وصب رحيق علومهم النافعة في أذهان المنصتين لهم، كأمثال الشيخ الداعية محمد بن حسن الدريعي، الذي انتقل إلى رحمة الله ليلة الاثنين 21 / 6 / 1443هـ، وأديت الصلاة عليه بعد صلاة العصر بجامع البابطين بشمال الرياض، وُورِيَ جثمانه الطاهر في مقبرة الشمال. تغمده المولى بواسع رحمته. فقد وهبه المولى عز وجل أسلوباً جذاباً وعبارات تشد السامع لمتابعته حتى يفرغ من حديثه. وقد أطل على الدنيا مولوداً في مدينة المجمعة عام 1358هـ، ثم بدأ دراسته الأولى لمدة سنتين بإحدى مدارس الكُتَّاب، وكان من النابهين سريع الحفظ، بعدها التحق بالمدرسة الابتدائية السعودية بالمجمعة - وهي المدرسة الوحيدة آنذاك - ودرس بها السنوات الأربع الأولى، ثم افتتح المعهد العلمي بالمجمعة عام 1374هـ، فالتحق بالقسم التمهيدي، ودرس فيه سنتين حيث حصل على الشهادة الابتدائية، ثم التحق بالقسم الإعدادي والثانوي عام 1376هـ، لمدة خمس سنوات، حيث تخرج بتفوق من المعهد العلمي عام 1380هـ، بعد ذلك التحق بكلية الشريعة، وكانت تسمى رئاسة الكليات والمعاهد العلمية، وتخرج منها عام 1384هـ، وتم تعيينه مدرساً بمنطقة الأحساء لمدة خمس سنوات من عام 1385هـ إلى عام 1390هـ، ومما خفف عنه وحشة الاغتراب هناك أن سعد بقضاء أوقات فراغه مع كوكبة من العلماء والأدباء هناك، ولقد أجاد القائل:
وَما بَقِيَت مِنَ اللَذاتِ إِلّا
مُحادَثةُ الرِجالِ ذَوي العُقولِ
ثم انتقل إلى الرياض مدرساً في المتوسطة الأولى لمدة سنتين، بعد ذلك انتقل إلى معهد المعلمين الثانوي الذي سمِّي فيما بعد بالكلية المتوسطة، وعمل فيها لمدة خمسة عشر عاماً. وفي هذه الأثناء حصل على درجة الماجستير عام 1404هـ، ثم انتقل إلى جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية عام 1412هـ، في كلية أصول الدين قسم القرآن وعلومه ومحاضراً في كلية الدعوة والإعلام، وبعد ذلك تقاعد في عام 1423هـ، وتم التعاقد معه بعد ذلك لعدة سنوات حتى ترك العمل حميدةً أيامه ولياليه تاركاً ذكراً حسناً في نفوس زملائه وأبنائه الطلبة بل وجميع أحبته ومعارفه.
هذا ولا يفوتنا ذكر بعض مشايخه الفضلاء، حيث تلقى العلم في بداياته على يد الشيخ حمود بن عبدالله التويجري، كما استفاد من القضاة الذين تعاقبوا على قضاء المجمعة؛ كأمثال الشيخ علي بن سليمان الرومي الذي كان له فضل كبير في توجيه الشيخ للدعوة والإرشاد، وقد بدأ الدعوة إلى الله وهو لم يتجاوز السادسة عشرة من عمره، وللشيخ مكتبة صوتية تضم الكثير من الأشرطة، بعضها أشرطة نادرة لشخصيات بارزة سجلها الشيخ بنفسه منذ عام 1380هـ، وله العديد من البرامج التلفزيونية والإذاعية التي ناقش من خلالها كثيراً من قضايا الأسرة والمجتمع، كما ألقى العديد من الخطب والمحاضرات في مختلف مناطق المملكة، وقد أمضى حياته في وعظ الناس وإرشادهم، فهو متمكن من أساليب البلاغة والفصاحة، ومقبول لدى الخاصة والعامة، لما يتحلى به من تواضع وأدب جم رفيع:
وَأَحْسَنُ أَخْلاَقِ الفَتَى وَأَجَلُّهَا
تَوَاضُعُهُ لِلنَّاسِ وَهُوَ رَفِيعُ
وكان أول لقاء لي بالفقيد منذ عقود طويلة في مقر لجنة النظام والمراقبة المختصة بمتابعة سير الامتحانات بمدارس منطقة الرياض أثناء حضوري من حريملاء للمشاركة في هذه اللجنة، وكان ذاك اللقاء المبارك سبباً في استمرار التواصل مع فضيلته هاتفياً وتبادل الزيارات على فترات..، وأذكر أنه قد زارنا في منزلنا بحريملاء أثناء حضوره لإلقاء محاضرة توجيهية وإرشادية في أحد المساجد، كما كٌنت أزوره في منزله إذا حضرت إلى الرياض، فيفرح مرحباً ويجري بيننا وبينه تبادلاً في الأحاديث الودية الشيقة، وما يتخللها من طرائف محببة للنفوس..، وستظل تلك اللحظات الجميلة مع الفقيد ذكرى خالدة في طوايا النفس مدى العمر، مع حُزني العميق على رحيله الأبدي، تغمد الله الفقيد بواسع رحمته وألهم شقيقه وأبناءه وبناته وزوجاته وأسرة الدريعي، ومحبيه الصبر والسلوان.
وأرى الحياةَ لذيذةً بحياته
وأرى الوجودَ مُشْرقاً بوجودهِ
فلو أنني خُيّرت من دهري المنى
لاخترتُ طول بقائه وخلودهِ
** **
- عبدالعزيز بن عبدالرحمن الخريف