عمر بن عبدالله بن مشاري المشاري
الإسلام حثَّ على كل خلق حسن ونهى عن كل خلق سيئ، وأفضل الناس وأزكاهم وأحسنهم خُلُقاً هو نبيُّنا -صلى الله عليه وسلم- وقد «كان خلقه القرآن». رواه الإمام أحمد بسند صحيح (25302) ووصفه الله بقوله: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4] قال علي -رضي الله عنه-: «الخلق العظيم: هو أدب القرآن ويشمل ذلك كل ما وصف به القرآن محامد الأخلاق». (التحرير والتنوير -29/ 64).
ومن الأخلاق الحسنة: ترك ما لا يعني، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «مِنْ حُسْنِ إِسْلامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ». رواه الإمام أحمد بسند حسن (1737).
وهذا حديث عظيم في الأدب الذي ينبغي أن يكون عليه المسلم، وهو من جوامع كلمه -صلى الله عليه وسلم-، وقد عدَّه الدارقطني -رحمه الله- من أصول أحاديث الإسلام الأربعة. وإنَّ من سوء الخلق: التدخل فيما لا يعني من أمور الناس وخصوصياتهم، قال السعدي -رحمه الله- في بهجة قلوب الأبرار: «مفهوم الحديث: أنَّ من لم يترك ما لا يعنيه، فإنَّه مسيءٌ في إسلامه، وذلك شامل للأقوال والأفعال المنهيِّ عنها نهيَ تحريمٍ أو نهيَ كراهة». وقال الإمام ابن تيمية -رحمه الله- في مجموع الفتاوى (7/ 50): «فإذا خاض فيما لا يعنيه؛ نقص من حسن إسلامه فكان هذا عليه». وقال ابن القيم في مدارج السالكين عن هذا الحديث: «فهذا يعم الترك لما لا يعني من الكلام، والنظر، والاستماع، والبطش والمشي، والفكر، وسائر الحركات الظاهرة والباطنة». وقال ابن رجب -رحمه الله- في جامع العلوم والحكم: «إذا حسن الإسلام اقتضى ترك ما لا يعني كله من المحرمات والمشتبهات والمكروهات، وفضول المباحات التي لا يحتاج إليها، فإن هذا كله لا يعني المسلم إذا كمل إسلامه».
وكلَّما تدخَّل المرء فيما لا يعنيه فإنَّه يغفل عمَّا يعنيه، فيضيع وقته وينشغل بما لا ينفعه، ويقترب ممَّا يضرُّه، قال ابن القيم -رحمه الله- في الفوائد (1/ 255): «من فكر فيما لا يعنيه فاته ما يعنيه، واشتغل عن أنفع الأشياء له بما لا منفعة له فيه».
فيا من ابتليت بالتدخل فيما لا يعنيك جاهد نفسك إصلاحاً وتقويماً حتى تنشغل بما يعنيها عمَّا لا يعنيها، قال في تنبيه الغافلين ص (572): «ويقال: أصل الورع أن يتعاهد المرء قلبه لكي لا يتفكر فيما لا يعنيه، فكلما ذهب قلبه إلى ما لا يعنيه عالجه حتى يرده إلى ما يعنيه، وهو أشد الجهاد، وأفضله، وأشغله لصاحبه».
ومن الناس من إذا رأى اثنين يتحدَّثان اقترب إليهما ليسمعهما تطفلاً، أو رأى قادماً أسرع إليه وسأله عمَّا لا يعنيه، من أين جئت؟ وماذا قال فلان؟ وماذا قلتَ له؟ وغير ذلك من الأمور الخاصة، فيا من هذه صفته: اترك ما لا يعنيك فإنَّه لا نفع فيه، بل قد يضرُّك.
لقافةُ المرءِ سوءٌ من الأدب
فيها التطفل عنوانٌ لذي السفه
قال في موارد الظمآن لدروس الزمان (6/ 392): «لو تتبعت أكثر المشاكل، والمنازعات والمخاصمات والمجادلات، لوجدت سببها الوحيد التدخل فيما لا يعني».
وقيل للقمان: «ما حكمتك؟ قال: لا أسأل عمَّا كُفيت ولا أتكلَّف ما لا يعنيني». وقال الفضيل بن عياض -رحمه الله-: «من عدَّ كلامه من عمله قلَّ كلامه فيما لا يعنيه».
فمن سألك عمَّا لا يعنيه فلا تجبه، وقال ابن عباس -رضي الله عنهما- لمولاه عكرمة: «انطلق فأفت الناس فمن جاءك يسألك عما يعنيه فأفته، ومن سألك عما لا يعنيه فلا تفته، فإنك تطرح عن نفسك ثلثي مؤنة الناس». ودُخِل على أبي دجانة -رضي الله عنه- وهو مريض وكان وجهه يتهلل فقيل له: ما لوجهك يتهلل؟ فقال: ما من عملي شيء أوثق عندي من اثنتين. أمَّا إحداهما فكنت لا أتكلم فيما لا يعنيني. وأمَّا الأخرى فكان قلبي للمسلمين سليماً». (الطبقات الكبرى ط العلمية - 3/ 420).
ومن آفات التدخل فيما لا يعني: أنَّه سبب لحصول المشاكل والخلافات وقطيعة الرحم والمنازعات، وبغض الناس لمن يتدخل في شؤونهم، وأنَّه علامة على قسوة القلب وعدم التوفيق والفلاح، قال الحسن رحمه الله: «من علامة إعراض الله عن العبد أن يجعل شغله فيما لا يعنيه». قال الشاعر:
والنفسُ إن طَلَبتْ ما ليسَ يَعْنِيها
جَهلًا وحُمْقًا تقعْ فيما يُعَنِّيها
وممَّا قيل: من تدخَّل فيما لا يعنيه لقي ما لا يرضيه.