د. هيا بنت عبدالرحمن السمهري
وتبقى بلادنا رحبة بتاريخها؛ زاخرة بنبض البطولات؛ يقترب صليل السيوف من ساحاتها فتلمعُ أمام العيون لتضاء الطرق لاستقبال المنتصرين دائماً؛ فكل وسم تاريخي اليوم يبقى وقوداً لمسيرة جديدة قادمة؛ ذلكم شريط سينمائي ارتسم في الذاكرة حين صدر في أواخر الشهر الماضي أمر ملكيٌّ كريمٌ باعتماد يوم 22 من شهر فبراير من كل عام يوماً للاحتفاء بتأسيس بلادنا، وهو تاريخ تشنفتْ له الآذان لتنصت لصوت جذورنا التاريخية التي خَلَدَتْ مشاعل ضوء في دروب حضارة بلادنا الفاخرة؛ ذلك الكيان المتجلي الذي حُفِرَ اسمه في قلوبنا حباً وولاء وفي ذاكرة العالم انبهاراً، فجاء الأمر الملكي الكريم إعلاناً عن مسيرة الحكم السعودي الرشيد منذ البدايات وعن حكايات الفداء للأرض والإنسان التي امتلأتْ.
بها مدارج الأحداث العظيمة منذ ثلاثة قرون حين دوّن التاريخ أمجاد الإمام محمد بن سعود حزماً من جهود التأسيس للدولة السعودية الأولى، وحين حمل الإمام محمد بن سعود الأوسمة، فارتوتْ على يديه عروق البدايات في حاضنة الحكم آنذاك (الدرعية) التي مازالتْ «أما برَّة، تألق في سوحها حكام عدل، وعلماء فضل، وفرسان مغاوير، وأبناء أوفياء بذلوا من أجلها المُهج، وتجشموا لها الخطوب وتباروا في التضحية والفداء» وتُحدثنا كتب التاريخ عن الإمام محمد بن سعود، بأنه كان سابقاً لعصره، وصاحب قدرات إدارية فذة وعبقرية سياسية، حيث استطاع خلال فترة حكمه توحيد المجتمع ونقله من حالة الشتات والفرقة إلى كيان ذي نظام ووحدة سياسية، وامتد تأثيره إلى حدود تجاوزت منطقته؛ ونستطيع أن نقول إن الإمام محمد بن سعود تشكلتْ في عهده مدرسة سياسية غرستْ البدايات واستنهضتْ الكفاءات؛ وهو ما لم تعرفه المنطقة قبله آنذاك!
ويوم التأسيس قياس صادق لعمق جذورنا عبر الزمان، وحديث عن مدى استمرار تاريخنا حيًا مؤثرًا، وغوص في أعماق بلادنا منذ رِكازها التليد؛ لمدى ارتباط ذلك وتفاعله مع معطيات عصرنا المتوهج الحديث، وهو بذلك حريٌّ باستعادته وصياغته أمام الأجيال الحاضرة، ولأن عظمة الدول تُقاس بقدر ما حفروه في ذاكرة التاريخ؛ وبقدر ما قدمتْ لشعوبها مما يعينهم على تغيير واقعهم، وبما صنعتْ من عمق وارتباط بجذور الدولة الحديثة، ويوم التأسيس وسم لجزء بالغ الأهمية من تاريخ بلادنا حين الدولتين السعوديتين الأولى والثانية، وتم إقراره فأضيئت دوائر الضوء من جديد، تذكيرًا للأجيال الحاضرة وفي المستقبل بما بذله مؤسسو بلادنا من آل سعود من جهود، وما بذلوه من تضحيات وما قاموا به من أجل تأسيس دولتهم التي يفتخرون بالانتماء إليها. كما أن الاحتفال بهذه المناسبة العظيمة يربط الشعب السعودي النبيل بتاريخه العريق الذي يرجع لثلاثة قرون خلتْ؛ فعندما أصدر ملكنا سلمان أمرًا ملكيًا باعتبار يوم تأسيس الدولة يومًا وطنيًا يحفل بالمعطيات وحريَ بالتناول فإن اللوحات الملكية في يوم التأسيس سوف تشرق بالزعامة وصناعة الدولة ومولدها؛ وصور الأبطال من آل سعود في الدولتين الأولى والثانية؛ وهناك من تفاصيل الدولة السعودية الأولى والثانية ما هو جدير بالتناول والحديث والاحتفاء وبسط الأضواء، وأن يدركه السعوديون في حاضرهم ومستقبلهم، لتكون تلك الحقبة متكأ رئيسيًا لصياغة وثيقة الانتماء الوطني الصادق حيث إن ما امتازت به فترة حكم الإمام محمد بن سعود من محددات عليا جديرة ببسطها، فكتب التاريخ تشير إلى أن الإمام محمد بن سعود قد أسس دولة حديثة آنذاك عندما تولى إمارة الدرعية عام 1139هـ/ 1727 بينما كان المحيط الجغرافي للمنطقة يمرُّ بنزاعات وعدم استقرار؛ ولقد ازدان حكمهم بقيم أساسية تتمثل في بسط العدل وإقرار المساواة وبث القيم الإسلامية في إهاب الحكم!
ويوم التأسيس بكل أسانيد تفاصيله التي لازمت تلك الفترة لا ينبغي أن تظل حبيسة ومحصورة عند المتخصصين في علم التاريخ، فحريٌّ أن تسلط عليها الأضواء وأن تبسط أضابيرها أمام الأجيال في حاضرهم ومستقبلهم، وأن يشهد ذلك قولبة فنية أيضًا من خلال الملاحم والروايات التاريخية الوطنية والدراما العميقة وهو ما نأمل أن يتحقق من خلاله توأمة ورباط متين بين كل مراحل وعهود التاريخ الوطني السعودي العريق وصولاً إلى يوم التوحيد بقيادة الملك عبدالعزيز وإلى اليوم!