ظلّ صديقي المقرَّب الأستاذ عوض الحربي يحرّضني على قراءة كتابٍ كان قد أرسله لي، وهو يخبرني بتودُّد أنّ عدد صفحاته لا يزيد كثيرًا عن المئة، ويمكنني بالتالي الانتهاء منه في ليلة واحدة، وبأنّني لن أندمَ مطلقًا على قراءته؛ كان يشير بطرف خفيّ إلى أنّني أحتاج لمطالعة هذه النوعيّة من الكتب في مسيرتي الكتابيّة التي كان يُطريها كثيرًا، مشدّدًا على أهمّيّة اختيار نوعٍ معيّن من الكتب التي تدفعني إلى الأمام وليس العكس.
في البداية لم أهتمَّ كثيرًا بهذا الكتاب، بل تصفّحته سريعًا، وقد لفتتني صورة الكاتب الكبير (إبراهيم أصلان) وهو يطلّ على غلافه الخلفيّ بشاربه الكثّ وشعره المنكوش، كما كان يصف نفسه دائمًا. قد يكون شكل النسخة الإلكترونيّة التي لم تُظهر قيمة الكتاب، هي سبب عدم اهتمامي به أو انجذابي لقراءته. المهم أنّ إلحاح صديقي دفعني، بعد طول مماطلة، إلى قراءة الكتاب، ولكنّني - للحقّ - أكملت قراءته دون أن يَعلق منه شيء في ذهني! وكنّا في كلّ مرّة نأتي على ذكره، يظهر وكأنّني لم أقرأه، فيتعجّب صديقي ويسألني من جديد إن كنت قد قرأت الكتاب بالفعل، فأقسم له بأنّني قرأته. لكن، لم يكن يظهر من نقاشنا أنّني أدركت شيئًا منه عدا العنوان واسم المؤلّف. هذا الأمر جعلني في النهاية أُقرّ بأنّني بالفعل لم أقرأه كما ينبغي، وأقرّر بالتالي الشروع في قراءته مرة أخرى... فكان استمتاعي به لا يوصف، وكأنّني أقرؤه للمرّة الأولى!
لست موقنًا من سبب قراءتي العبثيّة الأولى التي لم تعبَّ منها ذاكرتي شيئًا، وهذه القراءة المختلفة الآن؛ وإن كنت أعتقد أنّ للأمسية القصصيّة التي حضرتها مؤخّرًا دورًا جوهريًّا في هذا التغيُّر الطارئ. فقد اجتمعنا يومها للاستماع إلى قاصَّيْن يسردان قصصهما بصوتيهما، ورغم امتعاضي من هذا الأسلوب، لا سيّما أنّني أعتبر أنّ الأمسيات لا تصلح لغير الشعر، وأنّ القصّة أو الرواية تُقرأ ولا تُسمع، إلّا أنّ ما حصل يومها كان - كما يبدو - فاتحة خير، إذ عرّفني بقيمة كتاب «خلوة الغلبان»، ذلك أنّ الحديث دار في تلك الأمسية الحزينة حول القصّة الواقعيّة، بصفتها حكاية سِيَرية تتضمّن سردًا لأحداث يوميّة غالبًا ما تكون مُعاشة، مستبدِلة أسماء الشخصيّات. كان لي يومها مداخلة ذكرت فيها أنّ القصّة القصيرة الإبداعيّة هي، في كلّ أحوالها، حكايات واقعيّة تمثّل واقع الحياة اليوميّة التي نعيشها، ولكنّها تخيّليّة بامتياز لا ترتبط بالكاتب مطلقًا، بل يتقمّص من خلالها عددًا هائلًا من الشخصيّات البعيدة كلّيًّا عن سلوكيّاته وصفاته. كنت أرمي من خلال ذلك إلى عدم الاعتراف بالسيرة كقصّة أو رواية، ولعلّي كنت محقًّا في ذلك بالنظر إلى ما يُعرض منها؛ فما الفائدة المرجوّة، والجمال الذي سيحضر، من ذكر حكايةٍ سطحيّةٍ لتجربةٍ حياتيّة مُعاشة ليس فيها أيُّ عمق، وتشبه ما يرويه العوامّ في مجالسهم؟! وَجَدْتُني أرفض تمامًا هذا النوع من الحكايات المكتوبة بطريقة ركيكة، ولا تتضمن أيّ رسائل هادفة.
كلّ ذلك كان لينتهي في وقته، لولا أنّني بعد الانتهاء من القراءة الفاحصة لـ»خلوة الغلبان» لإبراهيم أصلان، اكتشفت أنّني لم أكن محقًّا في نظرتي تلك إلى قصص السِّيَر الواقعيّة؛ فما رفضته هناك قطعيًّا ـ رغم عدم ذكر الأسماء وتنصُّل الكُتاب من كونها سِيَرهم الذاتيّة ـ قبلته من أصلان رغم ذكره كلّ شخص باسمه ووصفه، واعتبرته قصّة قصيرة فائقة الجودة، لا تقلُّ إبداعًا، بأيّ حال من الأحوال، عن القصص القصيرة الإبداعيّة لكبار الكُتّاب العالميّين! وجدتني أتقبَّل التنقُّل مع أصلان، والتعرّف على أصدقائه، والتألُّم لألمه، والفرح لفرحه...
كنت شغوفًا باستكمال الكتاب حتّى نهايته، ذلك أنّني استبدلت صديقي المخلص بـ»أصلان»، سافرت معه إلى عمّان في الأردن، ورأيته يقابل الشاعر العظيم البياتي، رافقته أيضًا إلى باريس وكان بمعيّتنا الروائي الكبير جمال الغيطاني، واستمعت إلى قصّته الحزينة مع صديقه محمّد حافظ رجب الذي قتلته القاهرة، وأوهنَتْ عظمه، وأعادته مرّة أخرى إلى الإسكندريّة خالي الوفاض، رغم قيمته الأدبيّة. كما استمعت إلى حكايته مع شاعر القصّة القصيرة يحيى الطاهر عبدالله الذي يوصَف بأنّه يمثِّل مرحلة الانعتاق من قبضة يوسف إدريس على القصّة، وذكره النهاية الصادمة التي مثّلها رحيله المفاجئ في سنٍّ مبكرة (كان عمره وقتها أربعين عامًا)، وقصّته الرائعة مع البستاني الذي كان يُنفق أغلب مُرَتّبه على شراء نباتات الظِّلّ، ويزرعها في أركان المؤسّسة خشية طرده من عمله. كان يراقب بحزن بالغ تبدُّل سياسة المؤسّسة التي ذهبت باتّجاه استبدال الطبيعي بالبلاستيك، وقضت عليه في نهاية الأمر؛ أيضًا أخبرنا قصّته الملهمة مع عالم النفس الفرنسي الشهير، من أصول مصريّة، جاك حسّون، الذي ينحدر من قرية قرب المنصورة تسمى «خلوة الغلبان»؛ يومها لم يَحفل به بسبب ديانته اليهوديّة، وتودُّده المستغرَب له، ولم يكن يرى فيه ما يستحقّ الاستجابة لعزيمته، حتّى عرف متأخِّرًا جدًّا أنّه عالِمٌ كبير وصاحب مؤلّفات خالدة، ويُعَدُّ أحد أبرز أعضاء مدرسة باريس الفرويديّة.
كلّ هذه القصص الحقيقيّة، والتجارب الشخصيّة، كانت رائعة وتمثّل القيمة القصصيّة التي أبحث عنها، في مزاوجتها بين الواقعيّة الإبداعيّة المغرية بالقراءة، والعمق العظيم الذي يدعوك للتفكُّر ويشدّك لإعادة قراءة كلّ قصّة ومحاولة فهم مغازيها ورسائلها المبطَّنة. وجدتني أقف على أمر غاية في الأهمِّيّة، وهو ما ذكره لي صديقي خالد الداموك عندما قالها صراحة بأنّنا نفتقر إلى الموهبة الكتابيّة، وكنت قد وافقته على رأيه، وأخبرته أنّ أغلب الكتّاب من حولنا - للأسف - هم ممارسون للكتابة ولا يمتلكون موهبتها، بينما كان إبراهيم أصلان كاتبًا حقيقيًّا وموهوبًا، استطاع انتقاء المواقف التي تستحقّ تسليط الضوء عليها، وتَحَدَّثَ عنها ببراعة قلّ نظيرها، إذ لم يكتب كلمة واحدة لا تستحقّ القراءة، بل كان قادرًا بطريقة عجيبة على الجمع بين واقعيّة القصّة وبساطتها من جهة، وبين عمقها التوعوي من جهة أخرى، كقصّته الرائعة مع عبّاس محمود العقّاد عندما تفاجأ به يقف أمامه بشحمه ولحمه، ولم يكن يصدِّق أنّه سوف يلتقيه هكذا في شارع عموميّ دون أن يكون برفقته أحد، وكيف أنّه أخذ يراقبه وهو يتحدّث مع البائع عن قلم يريد شراءه، كما يفعل البسطاء. كان في هذه الالتقاطة العظيمة إشارة إلى أنّ قيمة الإنسان الحقيقيّة في عقله وتفكيره لا في هيئته وشكله.
لعلّي، وقد انتهيت، ازددت إيمانًا بأنّ القصّة لا يمكن تأطيرها ضمن أُطُر معيّنة، أو حبسها في قوالب محدَّدة، وأنّ كلّ الشروط التي نتحدّث عنها غالبًا ما تضيع عندما يُمسك بالقلم كاتب موهوب، يعلم جيّدًا ما يستحقّ أن يُقال وما لا يستحقّ، ولو قال أحدهم إنّنا بحاجة لوضع أُسس معيّنة لكتابة القصّة الإبداعيّة ولا مناص من ذلك، فإنّني سأحرّضه على قراءة «خلوة الغلبان» كما فعل صديقي معي، وهو سيجد بين ثناياها كلّ أساسيّات كتابة القصّة القصيرة الإبداعيّة.
** **
- حامد أحمد الشريف