هذا كتاب يشرح المفردات العامية السائدة في الريف المصري في القرن الحادي عشر الهجري. صدر منه عدة طبعات بدائية، ثم طبعة بتحقيق محمد البقلي عام 1963 استبعد منها الفاحش من الكلام شعرا ونثرا، متنا وشرحا. وطبع طبعة أخرى قدم لها طاهر أبو فاشا، ثم طبعة بتحقيق (همفري ديفيز).
مؤلفه هو يوسف بن محمد بن عبدالجواد بن خضر الشربيني، من بلدة (شربين) ولا يعرف عنه إلا القليل بما في ذلك وضعه الاجتماعي ومهنته. لكن يمكن رسم صورة له من خلال كتابه هذا الذي ألفه استجابة لرغبة عزيز عليه، لم يسمه في مقدمته.
الكتاب شرح لقصيدة هزلية بالعامية، ألفها المؤلف نفسه، على لسان فلاح ريفي، اسمه (أبو شادوف) وضمنها شكوى زمانه، وإخوانه، وحكامه، وأمنيات كثيرة في تشهي بعض الأطعمة، ثم شرحها بالفصحى.
وعن دواعي تأليف الكتاب يقول المؤلف في مقدمته: «وبعد فيقول العبد الفقير إلى الله تعالى يوسف بن محمد... كان الله له، ورحم سلفه، أن مما مر علي من نظم شعر الأرياف، الموصوف بكثافة اللفظ بلا خلاف، المشابه في رصه لطين الجوالس، وجرى ذكره في بعض المجالس، قصيد (أبي شادوف)، المحاكي لبعر الخروف أو طين الجروف، فوجدته قصيدا يا له من قصيد، كأنه عمل من حديد، أو رص من قحوف الجريد، فالتمس مني من لا تسعني مخالفته، ولا يمكنني إلا طاعته، أن أضع عليه شرحا كريش الفراخ. أو غبار العفاش وزوابع السباخ... وأن أتمه بحكايات غريبة، ومسائل (هبالية) عجيبة. وأن أتحفه بشرح لغات الأرياف، التي هي في معنى ضراط النمل بلا خلاف».
ويعلل لسبب جنوحه إلى الأسلوب الساخر الماجن بقوله: «فقد يلتذ السامع بكلام فيه الضحك والخلاعة، ولا يميل إلى قول فيه البلاغة والبراعة، لأن النفوس الآن متشوقة إلى شيء يسليها من الهموم ويزيل عنها وارد الغموم».
ويدل محتوى كتابه على ضلوعه في علوم العربية، ويبدو أنه يتخذ الطرافة من باب المراوحة بين طور وطور. فهو يقول عن طبعه:
فطورا تراني عالما ومدرسا
وطورا تراني فاسقا (فلفوسا)
وطورا تراني في المزامر عاكفا
وطورا تراني سيدا ورئيسا
مظاهر أنس إن تحققت سرها
تُريك بُدوارا أقبلت وشموسا
وقسم كتابه إلى قسمين، الأول بدأه بمقدمة مطولة، ترجم فيها لمؤلفها المزعوم أبي شادوف، ترجمة هزلية ساخرة. ثم قدم لنا تصويرا لحياة أهل الريف، وبيان ما هم فيه من جهل وفقر، وما يعتريهم من ظلم الولاة العثمانيين، وعمالهم المكلفين بأخذ المكوس من الفلاحين بأقسى الطرق. وتحدث عن أحوال الفلاحين فوصف جهلهم بأمور دينهم، وعرض نماذج من فقهائهم، ومؤدبي أطفالهم، وحكايات الصوفية، ومدعي الولاية والكرامات.
ولكنه أسرف في هجاء الريفيين والفلاحين هجاء مقذعا لا يقبله عاقل. وتناول بالسخرية أسماءهم وكناهم، وأولادهم وزوجاتهم، وعاداتهم. حتى إنه لم يكتف بالحكايات المعاصرة التي تنتقدهم، لكنه أورد حكايات من الأدب العربي ينقلها، مثل حكايات هارون الرشيد مع ندمائه، يتناولون فيها بالسخرية الأرياف والفلاحين. وقد ربط بين جهلهم ومعايشتهم للثيران، فقال شعرا:
ثيرانهم قد أخبرت عنهمُ
بأنهم من طينة واحدةْ
وختم القسم الأول بأرجوزة من نظمه، لم تخرج عن موضوع الكتاب الأساس، وهو ذم الفلاحين ومعيشتهم.
أما القسم الثاني من الكتاب؛ فأورد فيه القصيدة وشرحها. يقف عند كل بيت من أبياتها فيشرحه بالتفصيل، ويستشهد على ما يقول بشعر قديم، أو حكايات ذات صلة.
يذكر المؤلف مدلول الكلمة العامية في قصيدة أبي شادوف، ويبدأ بمعناها في بلده ثم مدلولها، وما يناظرها في بلاد الريف الأخرى.
وينبه على ما يحتاج إلى توضيح من نحو وبديع، مما يدل على ضلوعه في العِلمين. ويظهر أنه كان واسع الاطلاع فهو يحيل إلى الكتب، ويستشهد بكثير من الأبيات؛ سواء أنسبها لقائلها أم لم ينسبها.
وأسلوبه حين يكتب بالعربية الفصحى جيد، وهو يلتزم السجع على طريقة أهل عصره، ومن قوله:
«وقد ناب مؤلف هذا الكتاب من كيد الدهر نائب، ورمته الليالي بسهام المصائب. فأصبح بعد الجمع وحيدا، وبعد الأنس فريدا. يسامر النجوم، ويساور الهموم، يسكب على فراق الأحبة الدموع، ويرجو عود الدهر وهيهات الرجوع.
يا ليت شعري والدنيا مفرقة
بين الرفاق وأيام الورى دولُ
هل ترجع الدار بعد الأنس آنسة
وهل تعود لنا أيامنا الأُوَل»
وفي الكتاب - في مقدمته وشرحه - من الفحش والمجون ما لا يستساغ نشره. لكن ذلك لا يمنع الباحثين من الاستفادة منه. فهو سجل للهجة العامية في عصره، وشرح مفرداتها. كما أنه سجل للحالة الاقتصادية والسياسية في القرن الحادي عشر الهجري.
بيَّن حين تناول الحالة الاقتصادية ضيق عيش الأرياف في عصره، وما يكابد أهلها من الفقر، ويذكر على ألسنتهم قصصا تصور سوء أحوالهم.
أما في وصف الحالة السياسية فيعرض لحالة الفلاحين مع حكامهم، ويستطيع الباحث أن يجد صورة وافية لظلم الحكام في عصر المؤلف، ومعاملة للفلاحين، بل إن جملة واحدة يذكرها المؤلف تدلنا على ما كان يعانيه الفلاحون، فهو يقول: «نحمد الله الذي أراحنا من الفلاحة وهمها، ولم تكن لآبائنا ولا أجدادنا، فالفلاحة على كل حال بلية، أعاذنا الله والمحبين منها».
ويقول: «وما دام على الفلَّاح شيء من المال فهو في هم شديد، ويوم السداد عند الفلاح يوم عيد». وهو يصف الكاشف ونزوله البلد، كما يصف الملتزم وأفعاله، من إلزامه الفلاح، ولو كان فقيرا بإطعامه وإطعام أصحابه الذين معه، وإطعام دوابه.
وفي الكتاب لمحات دقيقة، ونقدات لاذعة لبعض البدع كبدعة الطواف بالميت، كما يَحمِل على الدراويش حملة عنيفة، ويتندر بوصف بعض خطباء المسجد والوعاظ.
ويعنى عناية خاصة بذكر الأطعمة، وفوائدها ومضارها، ولا سيما أطعمة أهل الريف. وإذا ذكر نوعا من الطعام الريفي بين طريقة صنعه في كل إقليم، وقد يذكر طريقة صنعه في القاهرة. وهو دائما يذم الريفيين وطعامهم، ويمتدح طعام القاهريين، ولا سيما طعام الأتراك، ونراه يقول: «أما القطايف فإنها تعمل في بلاد المدن من الدقيق الأبيض الخاص المقطب، وتصب على صواني يقال لها الرقع من حديد أو من نحاس، إلا أنها صغيرة مثل القرصة، وهي ألذ هذه الأنواع وأطيبها، خصوصا إذا قليت بالسمن، وصب عليها عسل النحل، ولله الحمد أكلنا منها مرارا، وتلذذنا بها، ونسأل الله تعالى أن يطعمها لإخواننا الفقراء، ويعمهم بأكلها».
** **
- سعد عبد الله الغريبي