د. شاهر النهاري
تعج ساحات المدن ومتاحف العالم المتقدم حالياً، والمُستَعمِر فيما سبق من الزمان بالآثار القديمة، التي تمت سرقتها ونقلها من أوطان نشأتها، وفي زمن أسود كان الظلم فيه طاغياً من المحتل المحتال، وكان الضعف والجهل وعدم الاستقرار شائعا في الأوطان المحتلة، وخصوصاً في دول الشرق الأوسط الغنية بثرواتها، وتراثها الإنساني، وتاريخها، والتي عجزت عن حماية أراضيها وتراثها المنهوب في أزمنة من الفوضى وعدم الاستقرار.
كل متحف عالمي يحتوي على قسم خاص بالآثار المصرية والفرعونية، وآخر للتحف العراقية بتعاقب حضاراتها السومرية والبابلية والأشورية، وكذلك الكنعانية والفينيقية والآرامية والعبرانية من الشام، وأقسام للقرطاجية، والرومانية، والأمازيغية من شمال إفريقيا، والبيزنطية، والنبطية والسبئية والحميرية في جزيرة العرب، مروراً بحضارات كوش النوبية السودانية، وأخيرا بآثار حضارات العصور الإسلامية المختلفة في معظم الدول العربية، والتي تبلغ مدى تكدسها حاليا في المتاحف التركية، إضافة إلى ما يتكدس في متاحف أوروبا وأمريكا وروسيا.
والسرقات لم تكن فقط للمقتنيات الصغيرة، المنقولة، ولا للثمين من المجوهرات والنفائس فقط، ولكنه يبلغ المدى بالسرقات العينية الضخمة لمسلات فرعونية وتماثيل حجرية ضخمة متنوعة ومجسمات وشواهد قبور ومنابر وأبواب معابد ومساجد وقصور، وما كان يستدل به على الهندسة المعمارية في المباني، والتوابيت والموميات بذاتها، إضافة إلى ما نراه من تحف ومقتنيات ومخطوطات وفنون وألواح وكتب تعبر عن رموز الدين الإسلامي، والتي كانت موجودة في المدينة المنورة ومكة إضافة إلى عشرات الآلاف من المخطوطات القديمة، التي تزدان بها المكتبات والجامعات العالمية.
ومن المتاحف العالمية الشهيرة، التي تكتظ بأكبر كميات من التحف والمقتنيات الشرقية متحف المتروبوليتان للفنون في مدينة نيويورك، ومتحف هيرميتاج في روسيا، ومتحف اللوفر في باريس، ومتحف الفاتيكان ومتحف أوفيزا في إيطاليا، والمتحف البريطاني، ومتحف سميثونيان في واشنطن، ومتحف ريجكس في أمستردام، ولا توجد دولة أوربية أو غربية، لا تحتوي على عدة متاحف يتم فيها جمع ودراسة التاريخ البشري للشرق الأوسط بمختلف مكوناته، وأغلب ذلك تم عن طريقة النهب المباشر، أو غير المباشر بشراء التحف من مهربي الآثار.
وهذا كله لا يتم إلا عن وعي تلك الدول بالقيمة ليس فقط المادية لمثل هذه المقتنيات، ولكن بقيمتها الفكرية، ودراسة وتثبيت خطوطها العريضة والرفيعة، اعتمادا على تاريخ العهود المنصرمة وبقايا تواريخ وحضارات الشرق.
جدل عظيم يثار بين الحين والآخر في هذا الجانب، فالدول المحتلة تتهم دول الشرق المُستعمرة بأنها لم تكن أمينة على حفظ تلك الآثار، وأن الفاسدون في سلطات وشعوب تلك الحضارات القديمة والحالية، كانوا يستغلون فترات الفوضى والغفلة، مع انعدام القدرات العلمية، وفساد فترات ضعف السلطة والتي يهمها الزمن الحاضر أكثر مما يهمها تراث الأمة والحضارات، فكان منهم الكثير ممن خان أممهم، وباع مقتنيات أوطانهم بطمع وبأرخص الأثمان.
وكثير من تلك الشعوب، وأثناء الثورات، والحروب، وتفشي الفوضى، ظلت تعاني وحتى يومنا ممن ينتهز الفرص، ويحتال، ويكسب ببيع ما ليس له من أيقونات وتراث، وكثير من تلك الدول لا تزال غير قادرة على حماية تراثها، مثلما شهدناه وعشناه في العقد المنصرم ومن خلال ما سمي بالربيع العربي، فكانت حكايات ضياع جديد عظيم لأكثر ما تبقى من أثار العراق وسوريا، التي قامت داعش وميليشيات الشر بسرقتها وبيعها، حتى أن المقابر لم تسلم منهم.
اتهامات للشعوب، والمُستعمَر للمُحتل يجد الأسباب والحجج، ولا نلبث أن نجد من يحتج بيننا عليه، ويرفع مثلي صوت النقد، باعتبار أن وجود المُحتل، كان السبب الرئيس في عدم قدرة تلك الدول على المحافظة على أثارها، حيث أن المحتل يسعى لبقاء تلك الدول على حالتها من التخلف والفقر والجهل والانفلات الأمني.
وحقيقة أن الباقي من تلك الآثار في مناطق الشرق الأوسط، يعامل في الغالب معاملة سيئة من أهله، بنقص الاهتمام والإمكانيات، وسوء عمليات التخزين والعرض والحفظ والترقية، وانعدام أو نقص البحوث والدراسات المحلية، حيث أن جامعات دولنا العربية ومؤسساتها لا تأخذ الآثار بجدية ومنطقية وعمق، ولم تعطي دراسة الآثار قيمتها، ودوما يتم فرض المفهوم السردي فيها على الحقائق العلمية الحديثة للتحقق، والربط، وتكوين الصور، وإعادة بناء التاريخ الموثق، وفصله عن التاريخ الغيبي.
ولا عجب أن نجد أصواتا في داخل بعض دول الشرق المنهوبة تنادي بإبقاء الآثار المسروقة في أماكن غربتها الحالية، حتى لا ينالها من الإهمال ما ينال الآثار الموجودة بيننا فعلا، وحتى لا تضيع مجددا بفساد الأنفس.
منظمة اليونسكو تحاول قدر استطاعتها متابعة الآثار المسروقة، وتسجيلها، وإعادة بعضها لمواطن النشأة، وحسب القدرة والإمكانيات المادية للمنظمة.
ومن وجهة نظري المتواضعة، أن هنالك ضرورة لصحوة علمية عربية شرق أوسطية، واهتمام حكومي، وتعظيم القدرات البحثية والعلمية في جامعاتنا، حتى يتم تسجيل الآثار الموجودة والمسروقة، وإثبات ملكيتها، للبلد الأم، الذي نهبت منه، ومن ثم التنسيق في التشارك بين دول الشرق والمستعمر في كيفية إدارة تلك الآثار، بحيث تبقى هناك لفترة متفق عليها، مع مشاركة الدولة الأم في المداخيل المادية لتلك المتاحف، وعلى أن تقوم منظمة اليونسكو بالتأكد من أن تلك المبالغ، تستخدم فعلا من قبل الدول الأساس لبناء وتطوير المتاحف المجهزة الحديثة، ومراكز البحث في مختلف بلدان الشرق الأوسط، وبالتالي التهيئة الشاملة للمكان والظروف والعقول والبنية التحتية، قبل استعادة القطع والآثار المنهوبة، وبعد التأكد من أنها لن تضيع أو تُهمل، أو تدمر، أو يتم تهريبها مجدداً.