سهام القحطاني
هيمن العقل البلاغي على كلام العرب في كونه «قول فني صحيح الشكل و المضمون» أضر بذلك القول ؛إذ حجزه داخل أحادية القياس و الارتباط بمعيار «الصحة» سواء على مستوى الشكل أو المضمون و مخادعة الكمال و المثالية،هذه المخادعة التي نزعت من القول قيمته كخطاب وحصره في سحر الفصاحة البيان ونزع كينونته الفكرية.
لتُصبح تلك الحصرية بسحر بيانها وفاقدها الفكري قيمة أصيلة للعرب وعلامة ثقافية يتفاخر بها الجاحظ، الذي رأى أن الفكر يُعيب القول و ينقص في سحر بيانه ولذلك عاب على فكر الفرس و العجم بأنهم أمة فكر أضاعت البيان وهو يقارن بينهما و بين قول العرب» ألا إن كل كلام للفرس، وكل معنى للعجم، فإنما هو طول التفكر و دراسة الكتب..وكل شيء للعرب فإنما هو بديهة وارتجال، وكأنه إلهام، وليست هناك معاناة ولا مكابدة، ولا إجالة فكر ولا استعانة، وإنما هو أن يصرف وهمه إلى الكلام، فما هو إلا أن يصرف وهمه إلى جملة المذهب و إلى العمود الذي يقصده، فتأتيه المعاني إرسالا،و تنثال عليه الألفاظ انثيالا»-البيان و التبين ج3 تحقيق عبدالسلام هارون-.
فالجاحظ يفتخر بسليقة العرب في البيان التي حمتهم من مكابدة الفكر، وطول التفكير الذي تميّز بها الفرس والعجم والتي يرى الجاحظ فيها عيبا أفسدت فطرة البيان «الخطابة» عند اليونان أصحاب المنطق فيقول: « وكان صاحب المنطق نفسه بكّى اللسان، غير موصوف البيان، مع علمه بتمييز الكلام و تفصيله و معانيه و بخصائصه، وهم يزعمون أن جالينوس كان أنطق الناس ،ولم يذكروه بالخطابة»-البيان و التبين ج3-
وبذلك فالجاحظ أكدّ على تلك القالبية التي استعمرت العقل البلاغي عند العرب كونها «البيان» الذي لا يفسده الفكر، وهو يُقدم الأثر الوجداني الحاصل من سحر البيان على الأثر العقلي الحاصل من الحجة، لكن الجاحظ لم يُدرك أن الحجة هي معادل لقيمة الخطابة وإن لم تتزين بسحر البيان وهو ما فطن إليه علماء علم الكلام الذين صاغوا النظرية البلاغية على نهج الفكر اليوناني.
والذي أدخل المجتمع الإسلامي في ذلك الوقت في دهاليز الصراعات الفكرية عبر «الدائرة البيانية» كما يسميها الجابري والتي اعتمدت على «أدوات التقنين» القياس و الشاهد الغائب، وظلت تمثل «ردة الفعل» نحو الآخر الذي يسميه الجابري «الموروث القديم؛ بنيات العقائد و الثقافات السابقة على الإسلام و التي انبعثت مع عصر التدوين في شكل موروث فلسفي علمي».
سواء في «النحو أو الفقه أو الكلام أو البلاغة، كانت معظم الحالات عبارة عن سلسلة من ردود الفعل تستهدف الدفاع عن الذات ضد خصم خارجي.. كان تقنين اللغة ضد تفشي اللحن، أي ضد لغة بل لغات أخرى كانت تهدد اللغة العربية و بالتالي دائرة البيان العربي بأكملها، وكان تقنين الرأي في الفقه رد فعل ضد تضخمه وظهور اجتهادات تهدد بتجاوز الأصول ذاتها، وكان التشريع للعقل في علم الكلام رد فعل ضد شرائع العقل الأخرى تنتمي إلى ثقافات أخرى يتصادم منطقها مع منطق البيان العربي»-محمد عابد الجابري تكوين العقل العربي-.
وذلك التقنين كما يصفه الجابري لاشك أن كان المساهم الرئيس في نشأة الصراع الفكري بين الأقطاب المتنافرة وتحول الاختلاف الفكري إلى خلاف عقدي شهد على قداس مذبحه مآسِ للكثير من أصحاب الرأي و الفكر كما حدث مع ابن حنبل، والحلاج وابن رشد، فغاب التوصيف الموضوعي و المحايد للقوة الغالبة في ذلك الصراع ،وانتصر العقل البلاغي التقليدي وهو انتصار شدّ من أطراف تطرفه حتى أورث الأمة التخلف و الرجعية.
عندما نعود إلى نشأة قوانين البلاغة عند اليونان سنجد أنها كانت حاصل «الجدلية السوفسطائية» وهذه التراتبية هي التي أسست الإطار الفكري للبلاغة اليونانية وهو ما حدث بعد ذلك عند العرب المسلمين عندما أصبحت البلاغة مُساند إقناع «لجدليات علم الكلام» الذي عرّفه ابن خلدون «علم الحجاج عن العقائد الإيمانية بالأدلة العقلية»، وهذا التعريف هو ذاته المضمون الذي تأسست في ضوئه «فلسفة البلاغة الجديدة» أو النظرية الحجاجية على يد المفكر «شاييم بيرلمان».
إذن تحول البلاغة من البيان إلى الفكر تم بفضل «علم الكلام» إذ كسّر الدائرة المقدسة التي كانت تحيط بالبلاعة كونها مسطرة الكمال والمثالية ليدخلها دهاليز الجدل و والمعرفة واحتمالية وقوع النقص و الخلل، لكن هذا التحوّل لم ينقِ العقل البلاغي من «فاعلية المخادعة» بل دعمه وشدّ من أزّره لكن عبر السيطرة العقلية على المتلقي ومن خلال التقنيات الحجاجية، وليس السيطرة الوجدانية كالعقل البلاغي التقليدي.
فعلم الكلام كان يسعى إلى إثبات الحقائق من خلال العقل والحجة متجاوزا المستند اللفظي كمتحكم بياني، لكن لم يكن المقصد منه إنكار تلك الحقائق بل تفكيكها و إعادة بنائها وفق مقاييس العقل والحجج لا وفق مقاييس البيان، وإن كان بعضهم فشل في اتقان لعبة «البازل الفكرية».
فكان ال مقصد من ذلك التفكيك كما يرى الجابري هو الانتقال من «التحليل الأيديولوجي إلى مجال البحث الإبيستيمولوجي؛ البحث الذي يتخذ موضوعا له أدوات الإنتاج الفكري لا منتجات هذه الأدوات».
لقد تأثر علماء علم الكلام بفلسفة الجوهر بشقيها عند أرسطو و أفلاطون فوقعوا فيما وقع فيه مؤيدو العقل البلاغي التقليدي وهو «التقنين» وإن قصد الأول القولبة فالثاني قصد التحرر من قيد اللفظ كونه مقيد الدلالة في مسعى إلى عقلنّة المجرد دون ضابط دلالي سوى ما يقوده إليه العقل المحرر، و تكتشفه الذات المتأملة من خلال خصائص الذات الإلهية، وهو ما أوقع بعض فلاسفة المسلمين في دائرة الجدل السوفسطائي وظهور نظرية الاتحاد والحلول التي حاولت أن تلغي الحاجز بين المعلوم و المجهول الذي ضبط حدوده العقل البلاغي التقليدي فأباح البحث في معلوم المتون وحرّم التفتيش في مجهولها.