د. إبراهيم بن محمد الشتوي
ذكرت أننا يمكن أن نأخذ عبارة «إعلانات تجارية» بوصفها عتبة تجنيس تميزه عن سواه من الأجناس الأدبية، بيد أن الأمر المهم هو ما ذكرته قبل ذلك عن عدم ثقة المتلقي بالمادة الإعلانية من الناحية العلمية، ولا حرص المنشئ على هذه الثقة من خلال عدم أهمية المادة المقدمة، بقدر ما تكون الأهمية بالمقام الأول للتأثير على المتلقي، واجتذابه إلى المنتج لشرائه، فالتأثير على عاطفته هو الغاية من الإعلان، وهذا بالضبط ما يقربه إلى الأدب، ويعزز إمكانية اعتباره جنساً أدبياً مستقلاً، بناء على أن الفن في الأساس لا يبحث عن الثقة بقدر ما يبحث عن التأثير، ألم يقل البحتري إن الشعر يغني عن صدقه كذبه، وهو ما يعزز ما أشرنا إليه في المقالة السابقة عن الصلة بين الصدق الفني والصدق الحقيقي.
غير أن ما يميز طبيعة تكوين الإعلان هنا هي الجاذبية التي يحققها بعيداً عن محتواه، فهي ليست أمراً يسيراً، إذ تضافرت عدد من المكونات والأدوات على إنجازها؛ أهمها العناية الشديدة باختيار العناصر المختلفة التي يبنى منها الإعلان، سواء كان هذا الإعلان معتمداً على اللغة أو الصورة أو جامعاً بينهما، فهي عناصر قد اختيرت بعناية، وسلك في صناعة كثير منها أرقى التقنيات، والنظريات حتى تتمكن من إيصال رسالتها.
إضافة إلى أن كثيراً منها يجمع عدداً من العناصر كاللغة والصورة، كما يجمع عدداً من العناصر أيضاً داخل الصورة، فبالإضافة إلى المنتج نفسه، فقد يضم صورة من يستعمله، وقد يحرص على أن تكون هاتان الصورتان معتمدتين على فضاء معين يحتوي على جمال كبير، يعزز الجاذبية الخاصة للإعلان.
لن أفيض القول في الحديث عن عناصر الإعلان التي أعلم أن المغاربة قد بسطوا القول فيها، وربما -كما يقول القدماء- قتلوها بحثاً، بيد أن الأمر المهم لدي هو أن هذه العناصر قد بذل فيها من الجهد والوقت ما يجعلها تمثل عملاً إبداعياً متميزاً، تنتمي في مصادرها إلى عدد من الفنون القولية وغير القولية، فتجد فيها الشعر، إلى المثل، والصورة كما تجد فيها الفنون الحركية الأخرى.
وقد قام بإنتاج هذه المواد في كثير من الأحيان أناس متخصصون في فنونها، قد بلغوا من المهارة والحذق مبلغاً عظيماً ما يجعلها ذات قيمة في الحقول الفنية التي تنتمي إليها، وتسير وفق القواعد المرعية فيها، وهذا ما يجعل (الإعلان) مكوناً من عناصر مختلفة، يمكن أن نصفها على طريقة أصحاب المنهج الموضوعاتي بالثيمات، تحمل كل واحدة منها خصائص مستقلة وخلفيات فنية أيضاً مختلفة عن الأخرى، تتضافر فيما بينها لتشكل الإعلان المتكامل، ما يؤكد ما سبق قوله من أن الإعلان قد بني من مواد خام -في كثير من الأحيان- عالية الجودة وفق النظريات الأدبية والفنية.
إلا أن هذا البناء الفني المتميز لا يحمل في تكوينه معنى ذا قيمة، فالمعنى من أساسه لا قيمة له، ثم إذا كان له قيمة فإنها تتمحور حول المنتج الذي صنع لتسويقه، كأن يكون عطراً أو قطعة من الملابس أو نوعاً من الكريمات، وهو ما يحصر قيمة المحتوى في هذا المنتج، وتتحدد قيمته به من جهة، وبما قلناه من قبل عن المحتوى من التكرار وعدم الأهمية، وهو ما يبعده عن المعنى الأدبي أو الفني الذي يقضي بتعدد الدلالة، ويتسم بالعمق والثراء.
بيد أن ما قلناه من قبل عن الثيمات المكونة للإعلان، وامتدادها في بنية النظرية الأدبية والفنية، يعطي هذه الثيمات قيمة دلالية تعوض عن النقص الدلالي الموجود في الإعلان نفسه، ما يتيح للقارئ أن ينعم النظر في الإعلان، ويكتشف إمكانات القراءة المتوافرة فيه من خلال الوقوف على كل ثيمة على حدة، والبحث عما تنطوي عليه من عمق ثقافي واجتماعي تستطيع أن تشي به بعيداً عن الهدف من الإعلان الأصلي بالوقوف على ما فيها من دلالة.
هذه الدلالة التي تمنحها الثيمات مستقلة يمكن أن تجمع فيما بينها ليكون منها معنى كاملاً، مغايراً للمعنى الحرفي للإعلان، وذلك باستعمال المنهج السيميائي أو المنهج التأويلي، ما يعزز القيمة الفنية للإعلان، ويعزز كذلك النظرة إليه بوصفه جنساً أدبياً قائماً بذاته.
بيد أن الإشكالية التي تواجهنا هنا هي القصدية النفعية في صناعة الإعلان، وذلك أن النصوص الأدبية عادة لا تنشأ لغرض اتصالي محدد نفعي وظيفي، كالنصوص الموجودة في الوثائق أو العقود ونحوها.
ومع أنه من المتفق عليه بين كثير من النقاد المعاصرين على أن الحكم بأدبية كلام ما لا يعود بالمقام الأول إلى شكله، بمعنى أن كثرة الاستعارات، والجناسات لا تمنح كلاماً ميزة عن كلام آخر، إلا أننا في حالة الإعلان لا ننطلق من الشكل وحده في تحديد أدبية النص بقدر ما ننطلق من قدرته على الجاذبية، وقدرته على التأثير، وهي السمات التي جعلت صاحب المنتج يدفع المبلغ المادي المقابل له لصناعته، ولاستضافة الوسيلة الإعلامية له.