محمد جبر الحربي
وها هي الحروب تتحدث معي هنا الآن، بعد أن تحدثت السياسات المريضة لقرون، تلك التي تمهد للاحتلال والعدوان الذي يؤدي إلى القتل والأذى..
جرائم تقوم بها دولٌ كبرى أو صغرى، في الشمال والجنوب، والشرق والغرب، في دول العالم الأول، أو في دول العالم الثالث، في تناقضات التقدم مع القيم، وفي متاهات التخلف والجهل.
وجرائمُ يقوم بها متطرفون، وإرهابيون من مختلف دول وديانات العالم، صغاراً وكباراً، غُسِلت أدمغتهم، وأُدِيروا بأجهزةِ التحكم، فتحولوا من بشرٍ يُفترض فيهم إشاعة الخير والسلام والتسامح أياً كانت ديانتهم، إلى رصاص، وأحزمة ناسفة، ومتفجرات، وأصبحوا كالحديد البارد خالين من مشاعر الحب والرحمة.. فكيف إذا كانوا من المسلمين، ودينهم الرحمة، وربهم رحمن رحيم، ونبيهم نبي الرحمة..!
وهكذا، أيَّاً كانوا، صار للحديد الجهنمي في أيديهم أدواتٌ فتاكةٌ لقتلِ الأبرياء والمفكرين والعلماء والمثقفين.. ولنسفِ النظريات والمفاهيم، قبل نسفِ وقتلِ الناس دون تمييز، تخريبٌ للمجتمعات، وتعطيلٌ وتدميرٌ للأوطان.
وقد قادتني تأملاتي في ثلاثينات العمر إلى الشعورِ بخطرِ هذا، فكتبتُ هذا:
بَرْدُ الْحَدِيد
عَلَى غَفْلَةٍ قَدْ يَجِيءُ الْحَدِيدْ.
أنَا الطِّفْلُ مِنْ خَشَبٍ،
سَوْفَ يَأْتِي الْحَدِيدُ
فيَهْدِمُ زَاوِيَتِي وَشِرَاعِي،
وَيَهْدِمُهُ الرُّكْنُ هَذَا الْبَهِيُّ النَّدِيُّ الْمَدِيدْ.
وَيَدْخُلُ نَاحِيَتي: هَدْأَةَ الرُّوحِ
يَهْدِمُ أُغْنِيَتِي..
يَهْدِمُ نَافِذَتِي وَقِلَاعِي
وَمَا ضَمَّهُ الرُّوحُ مِنْ مَطَرٍ،
فعَلَى غَفْلَةٍ..
يَمَّحِى الطِّيبُ مِنْ شَجَرٍ،
ثُمَّ يَعْلُو عَلَى دِفْئِهَا الْعَيْنْ..
بَرْدُ الْحَدِيدْ.
وكبِرتُ، وتنقلتُ عبرَ مدنِ العالم، ولا زلتُ أذكر الأسقفَ الخشبية في البيوت التي سكنتها في الطائف طفلاً، وأسمع أصواتها وهي تئنُّ كما نئنُّ مع تقلبات الجو والعمر، وكان أهلنا يطمئنونا، ويقولون لنا إنها تسبِّح كي لا نخاف..
ولم لا تسبح، وكل الكائناتِ المتناهية في الصغر، وتلك المتناهية في الكبر والقوة والعلو، كالرعد والبرق والسحاب، والجبال الشامخة التي تسبح بعظمته، وتخر ساجدة..؟!
كان الخشب محيطنا، فمعظم ما كنا نراه ونلمسه، الطاولة والكرسي والسبورة والنوافذ والمسطرة التي كانت أداةَ عقابٍ أحياناً، وقلم الرصاص: «المرسمة» كما كنا نسميها في الصغر، تلك الجميلة الألوان ذات الممحاةِ: ولعل قلم الشاعر الكبير الأخطل الصغير: بشارة الخوري كان من رصاص، إذ قال:
يبكي ويضحكُ لا حزناً ولا فرَحاً
كعاشقٍ خطَّ سطراً في الهوى ومَحَا
وربما لم يكن، لكنه الخيال..!
ومن الخشب الخيزرانة، رغم أنها كانت كما نتذكر في أصلها كنباتٍ أجملَ وصفٍ للهيفاءٍ المتمايلة، أو كما هي في غناء وأيدي الراقصين:
«لا لا يا الخيزرانةْ
في الهوى.. ميَّلوكِ
لا لا.. واِنْ ميَّلوكِ
مالتْ الروحْ معاكِ»
وهذا لون فولكلوري: «الخبيتي»، وهو منتشر في مساحات شاسعة ما بين الحرمين، وتشتهر به قبيلة حرب خاصة.
ولعبة «الليري»* اللعبة الشعبية في حارات الطائف من خشب، وكذلك مراجيح الاحتفالات بالإجازات والأعياد من خشب.
وهناك فن العمارة: «أبنية القشلة* وقصر شبرا* في الطائف، والمساجد والبيوت القديمة في الحجاز»: (المحاريب والأبواب والنوافذ والمشربيات، وحتى الأسقف أحياناً).. ينقذها من الرتابة الخشب.
وسط المدينة المنورة، والطائف، وجدة يجذب أعيننا، ويثير دهشتنا بالخشب.
يا للحارة الطائفية تشدني بالخشب: بائعو الأواني والعطور والبهارات عرباتهم خشبية، والطفلة اليمنية بائعة السجائر صندوقها الذي تحمله أمامها من خشب.
خشب الطرقات تلمحه مع الفلاحين وباعة الفواكه عبر»الهورية» صندوق «الحماط»: التين، و «البرشومي»: الصبَّار، والعنب والخوخ والمشمش والرمان.
أما عربة البرشومي الغارقة في الماء فلها وقفة وشوكٌ وحكايات وضحكات، والبائع ينادي: « يا مال الشفا يا برشوم».. فيا للطائف من مسرحٍ حيٍّ مبهج.
ربما كان هذا هو سر الشعر في روحي، وهذا هو سر الألوان في شعري.. وفي الوجدان، بعيداً عن الكتب والقراءات الأولى والنجابة في الدراسة، التي لا شك أنها أساس، لكن الغناء.. الغناء هو النبع، والدافع الأول.
مِن هنا كان للطائف دور الساحر الجاذب بالألوان وبالأصوات للطفل الجميل نحو الحروف إذ تتشكل غيماً وأقواسَ قزح، أو تنهمر مطراً على الروح فيُنبت من كل زوجٍ بهيجٍ.. ولو بعد حين.