«الجزيرة الثقافية» - تحقيق وحوار/ جابر محمد مدخلي:
قال تعالى: {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ} (35) سورة البقرة
قبل هبوط أبينا آدم وأمنا حواء من السماء إلى الأرض لا نعلم رابطًا بين الأرض والسماء غيرهما. وكان رابطًا بشريًا بتوجيه الله وأمره، ذلك الأمر الذي أهبط معهما الشيطان لتبدأ الحكاية، وتنمو الصراعات فيما بين إبليس وسيدنا آدم، وأمنا حواء عليهما السلام منذ أكلهما من الشجرة حتى جاءا كوصلة إنسانية بين أرض الله وسمائه. فهبط أبونا آدم في الهند على معظم الأقاويل، وأمّنا حواء بمدينة جدّة -على الأرجح- وبدأت حكايتهما الأرضية بعدما توقفت حياتهما السماوية مؤقتًا. ومنذ موتها صار الحنين إلى أمّنا الأولى وموقع قبرها مصدرًا للبحث والتمنّي الطويل.
أن تحيا طوال عمرك في شوق إلى أمك الأولى، وأمّ البشرية «حواء» -عليها السلام- أول نساء الجنة وأعظم نساء الأرض فهذا يعني أنّ كل إنسانٍ في هذا العالم يشاركك هذا الشوق، وهذا الوجود. لهذا تنهض كثير من التساؤلات التي يعود مآلها إلى عجز المرء عن أن يجيب عليها بمفرده ؛ لأن تاريخ هذه الأمومة فيما بيننا وبينه قرون طويلة جدًا من بينها سنوات طوفان نوح عليه السلام التي غيّرت منار الأرض، وملامحها، وغسلتها أو لنقل وضأتها مما علق فيها من العصور التكوينية الأولى والدماء الأولى، والخطايا الأولى؛ لتتجهز للإنسان المحمول بسفينةٍ تحت رعاية الله وأمره، ولتستعد لبدء حياةٍ أرضيةٍ جديدةٍ.
ثم جاءت الحكايات متتابعة بعدما هبط الإنسان الجديد من سفينة نوح -عليه السلام- واتصلت الأزمنة ببعضها، وبدأ التاريخ الوجودي والإنساني فيما تلاه مائل بين الحقائق والتخمينات، والبيّنات. ثم جاءت رسالات سماوية لتصويب الخطأ البشري المترامي الأطراف منذ الطوفان وما تلاه، فحطّت على الأرض من جديد توراة موسى –عليه السلام- لتعيد ربط الأرض بالسماء في وحيٍ لكليم اختاره الله ليحقق عدالته في أرضه، بين مخلوقاته، ولما حدث ما حدث بينه وبين بني إسرائيل، وما حدث بينه وبين فرعون أعيد الإنسان إلى تكوينٍ من الصراع، والإيذاء، والتعالي على الخالق بما أحدثه فرعون، وما جلبه على بني البشر، وما استمر فيه موسى لتصويبه وتصحيحه بتوجيه من الله، وتأييد منه. لكنه إنسان تلك القرون الأولى الذي رفض فيه الكثير إلا أن يتبعوا عجلًا له خوار. لتنتهي قصة صراعٍ الحق والباطل بموت سيدنا ونبينا موسى عليه السلام. لتهدأ الأرض وتئن بذات التوقيت، وتعبرها فترة.. فترة خاوية، هاوية، متعثر أهلها بين حقيقة ما مضى، وأسطورة ما ورد إليهم من الشيطان بعبادة عجله، وتزييف ما مروا به من قبلهم، وتمسك بعضهم بما وجدوا عليه أبائهم، وآخرين بحنيفية أبينا إبراهيم-عليه السلام- ليبقى جزء من التوحيد الخالص لله في فترةٍ خلت من الرسُل. فترة احتاج الناس بعدها لنبيٍ يعيدهم إلى جادة الصواب، وطريق الأوليّن المؤمنين الذي تاهوا عنه في سنوات تيهٍ طويلةٍ، ليعودوا من بعده بين شكّهم وريبهم الجديد. فجاءت رسالة سيدنا ونبينا عيسى عليه السلام لتؤدي دورًا عظيمًا في إعمار الأرض وتوحيد الله، وإلغاء ما يُعبد من دونه.. ولتعيد اتصال الأرض بالسماء مجددًا عبر إنجيلٍ صائبٍ وصحيحٍ في عهد المعجزات العظيمة، والخالدة التي يقويّ بها الله رسله وأنبيائه ليتمكنوا من الوقوف في وجه الشر وأتباعه، والصادين لأمر الله، والخارجين عن حبل الله المتين. ولكن المسيحيين أتباع سيدنا عيسى-عليه السلام- أبوا إلا أن يعيدوا الناس إلى ضلالهم القديم فحدث ما حدث.. ورفع الله نبينا عيسى إلى السماء ليعود الناس من جديد إلى غيٍ، وضياعٍ وتيهٍ أطول من سابقه، وليتوه الناس عمّا تبقى في هذا الرابط السماوي بالأرض من أناجيل حديثة متغيرة عما هبطت عليه سعى أتباعها ومؤلفوها إلى محاولة ترميمها بتزويرها وخلط رسائل السماء الإلهية برسائل الأرض البشرية ليضيع الأصل بغيره. وانقضى ما انقضى وظل أتباع سيدنا عيسى على يقيٍ تامٍ منهم أنهم صلبوا نبيهم، وقتلوه.. ومع ما سنعرفه في آخر الرسالات بيقينٍ تامٍ، وحقيقةٍ سماويةٍ ثابتةٍ فيما حدث إلا أننا ما نزال أمام صراعاتٍ منذ عهودٍ وعصور. وبين تزييفٍ، وتحريفٍ وتأويلٍ، وتأطير، وتأصيلٍ مزيفٍ، ومكذوبٍ، ومُضلل. ولما كان الناس في حياتهم المشوّهة، والمؤسطرة، والرامية بالناس بين اقتناع بأنّ الدين الحقيقي والمؤمن الحق لا يبعدُ عن المسيحي، واليهودي، وقليل من الحنفيين كان القرار الإلهي لخالق الكون، ومُجري السحاب أن يعيد للأرض توازنها، ويلغي تأطيرها في دياناتٍ متعددةٍ متصارعة متناحرة فيما بينها لتفوز كل واحدةٍ منها بأتباع كثر لإقناع العامة بأن الأكثرية هي على الصواب دومًا. فخلت الأرض لفترةٍ يصيغها الهدوء تارةً والاضطراب والاحتر اب تاراتٍ أُخر. حتى أوحى الله إلى نبيه العظيم سيدنا محمد عليه أفضل السلام ليكون آخر الرسُل، وسيدهم، ويكون مجددًا، وجعل له الآيات والمعجزات والعِبر وقصّ عليه قصص الأنبياء السابقين، وأقوامهم في معجزته العظمى القرآن الكريم الذي نسخ كل ما سبقه من كتبٍ سماويةٍ ليظل بوجوده ونزوله على رسولنا الكريم هو الرابط الأبقى والأقوى والأصدق والأعدل بين السماء والأرض منذ نزول أبونا أدم وأمنا حواء من الجنة التي في السماء إلى الأرض ليكونا بذلك أول رابطٍ ويكون سيدنا محمد عليه السلام آخر الروابط وأوثقها. رابط متين عظيم عمّ به السلام، وامتدت رسالته إلى جميع الأقطار، وبلغت كل الآفاق.. فكان سلامه في معجزته ومعجزتنا نحن المسلمين القرآن الكريم.. هذا الكتاب الذي علينا البقاء معه على أنه معجزة كل بشري في هذا العصر، ومرجعه، ومرده ومآله، وخطابه، ولسانه، ويقينه وإيمانه بكل ما فيه...
ولما مات بقيت الخلافة فيمن تلاه وكان أول حدثٍ أن ارتدّ من ارتد، وتاه عن جادة الصواب من تاه ليقرّ هذا الفريق بطبيعة البشرية وأنّ ثمة أقوام وأناس لا بد وأن يعيشوا في صراعٍ دائمٍ بين أن يتبعوا أو يُتبعوا. وحتى يومنا هذا ظلّ كل ما مضى وسيبقى تكرارًا ودروسًا وعِبرًا. ولما كان بين يدينا هذا الملف كان عليّ تحديدًا أن أبدأ من أول رابطٍ بين السماء والأرض بأبينا آدم وأمنا حواء ثم أواصل البحث والتدقيق في كل ما تبعهم، ومن جاء بعدهم –بعيدًا عن التسلسلية- وإنما بحثًا عن الحدثية الرابطة لأعود فأجدني أمام بحثٍ يحتاج للعقل ليطرد الخرافة، ويُنفي عنه الأسطورة، فيحق الحقيقة أو ينفي الخزعبلات والأكاذيب. وكان عليّ أن أذهب بنفسي لأثبت أو أنفي كل الذي قرأته وما وُضِع بين يدي. ولأنتقل من علم اليقين إلى عين اليقين، ولأعود بعد هذا الذهاب محمولًا ببحوثي وذهني المملوء بالواقع، والإنصات، والحكايا، والقصص، والأساطير، والكثير الكثير من كل شيء حول حكاية أمنا حواء مرةً وعن وجودها وبقائها على الأرض، وقبر هذا الوجود مرات ومرات.
وهنا نتساءل أيمكن للحقيقة الوجودية تاريخيًا ومكانيًا أن تترسب في زمن الأسطورة فتتحول إلى معلومة الزمان مفقودة المكان؟ والإجابة قد تحيلنا إلى أنّ الأسطورة مع تقادم الزمن تفعل أكثر من ذلك، لأنها موروث لا يموت ولا يتحطم أمام قوة التغيير، وعبارات الإنكار والاختلاف ويمكننا إحالة مرجعية ثباتها وبقائها في الذهنية البشرية الباطنية التي تعدّ أكبر حافظة في وجوده، وأكبر مستودع ومرجع للإبداع أو التعطّل الفكري –كيفما أراد به حامله- ولأجل هذا وذاك نقف اليوم أمام قصة أمنا حواء بجلاء حقيقة حكايتها كما فصّلها وأوردها القرآن الكريم، وكما شرحتها التفاسير، واحتفظت بها بعض كتب التراث العربي، أو المسيحي، أو اليهودي المعتمد أتباعه على «الإسرائيليات» -وكل فيما يخصه- لأن علاقة الجميع بهذه الأم علاقة مرجعية واحدة، مصدر توحدهم فيها كونها أول مصدرٍ للعاطفة البشرية، وأبقاها.
وهنا تجبرنا كثير من المرجعيات والمباحث الدينية والتاريخية والتراثية والعربية والغربية الوقوف أمام حقيقتين ظاهرتين لا شك فيهما: أولاهما: ثبوت أمومة أمنا حواء للبشر قاطبة، وأنها الأم الأولى التي ما يزال وسيظل يتعلق بها سكان أهل الأرض مهما ظهرت فيهم التعدديات، والتعدّيات. وثاني هذه الحقيقتين: أنّ سيرتها القرآنية جاءت بوضوح وجلاء بعدما صار القرآن ناسخًا لجميع الكتب السماوية التي سبقته ليبقى هو المصدر الأهم والأعظم والأصدق والرابط بين السماء والأرض الأبقى لشعوب الأرض. ولكن مع هذا وذاك حدثت معارك بين هذه الحقيقتين، وبين أسطورة واحدةٍ مازال الذهن البشري حائر أمامها ومستمرة منذ قرون طويلة إلى يومنا هذا، بل ويمكننا القول إذا ما زرنا مقبرة أمنا حواء بجدة إثبات رسوخها في كثير من الأذهان الهابطة إلى جدة من جميع أنحاء العالم للوقوف والتبرك والاستشفاء بكل ما له سمة وجودية لأمهم حواء وقبرها الأسطوري بجدة والذي سنعرف في الأخير عبر مقالة طويلةٍ لأحد المهتمين بهذا الجانب الذي لخص فيها حكاية هامة وفتح لنا الآفاق أمام روايات ومسار زمني يلاحق فيه كيف تمت صياغة هذا القبر الأسطوري في جدة وكيف استطاعت ترسيخه حتى يومنا هذا، ويسبقه حوار مع أهم الباحثين والمهتمين بقبر أمنا وحواء وإثبات وجوده الحقيقي أو الأسطوري في مدينة الرباط.. جدة.
وهذا يستدعينا قبل عرض كل ما خلصتُ إليه –شخصيًا- إلى تساؤلات مؤرقة وضرورية والإجابات عليها قد تضع حدًا فاصلًا لهذا الأرق لي كإنسانٍ أرضي يبحث عن المكان الذي تنام فيه أمنا حواء-عليها السلام- فلماذا كانت جدة خيارًا وحيدًا لوجود قبر أمنا حواء؟ وهل هذا الوجود حقيقي حقًا أم أسطوري صدقًا؟ وإن كان حقيقياً فعلينا العلم بأنها نعمة من نعم الله علينا بهذا الوطن العظيم أننا في أمان أمومي عاطفي أبدي، ومن هنا علينا فتح هذا المصدر –بحال تأكيده- لأبناء وشعوب الأرض «إخوتنا» من أمنا الأولى المجيء بترحيب كبيرٍ لزيارة أمهم زيارة منظمة يستلهمون فيها مشاعر عاطفية حال وقوفهم أمام أم الكون سيدتنا حواء عليها السلام. ولا شك أن الهيئة العامة للسياحة والآثار ستجد من عظيم أعمالها القيام بواجبات هذا الاستقبال الإنساني العظيم. وفي خضم كل هذا وسواه سأضع هنا ما توصلت إليه من المؤكدات بأسطرة هذا القبر الموجود بجدة ونسبته لأمّنا حواء. بل وتعدّ من أعجب الأساطير المتوارثة كون لها أهداف هامّة -كما سنقرأ- يستفيد من بقائها كأسطورة أولئك الذين يقفون خلفها منذ قرون بالوراثة لتستمر أهدافهم: التجارية، والمادية، والدينية، والمذهبية، والتلبيس على بني الإنسان ليس إلا. وإذا ما دخلنا في أعمق التفاصيل البحثية والعلمية الجادة فإننا سنخلص إلى ما يلي:
- الخلاصة الأولى وجاءت في كتاب «جدة... وأمنا حواء عبق المكان وعمق الزمان» للدكتور محمد نويلاتي، حيث قال فيه: «كان بداية النهاية لمقام أمنا حواء في يناير 1926م حيث منعت السلطات السعودية بقيادة الملك عبدالعزيز آل سعود -طيب الله ثراه- الزوار والحجاج من دخول المقام أو زيارته، ثم في شهر أبريل 1926م تم هدم المقام...»
- الخلاصة الثانية -المرجع ذاته- « وصف الرحالة اليابانيون 1939م الموقع –أي مقبرة أمنا حواء بجدة- موضحين بأنهم لم يعثروا على أثر لقبر أمنا حواء، مبينين أن المكان قد تعرض لتقلبات الزمان، وتغير فيه كل شيء، وسط هذه المنطقة الصحراوية، مشيرين إلى صعوبة تصديقهم بأن هذه المنطقة كانت من أكثر مناطق العالم ازدحامًا بالسكان وتقدمًا في العصر الجليدي الرابع» وأشار المؤلف إلى أنّ الرحالة الياباني الذي قدم إلى الجزيرة العربية اسمه « إيجيرو ناكانو»وأن الكتاب الذي ذكر فيه الرحالة كلامه تمت ترجمته عن دارة الملك عبدالعزيز، عام 1999م.
- الخلاصة الثالثة: في تاريخ الطبري وفيه إشارة لمدفن آدم حواء عليهما السلام ص 151- 161 تقول الإشارة: « دُفن آدم بمكة في غار أبي قُبيس، وهو غار يقال له غار الكنز، وفي رواية أنه مات على جبل بوذا في الهند الذي أُهبِط عليه» ويشير الطبري أيضًا إلى « أنّ حواء عاشت بعد آدم سنة، ودفنت معه في الغار».
- الخلاصة الرابعة: « أن قصة إهباط حواء، التي لا يوجد لها نص قرآني، ولا من السنة أيضًا يحدد موضعًا لذلك، وما روي عن ابن عباس –رضي الله عنه- مدحوض لكذب راويه -أبو صالح- كما أن ابن عباس قد رافق صاحب الرواية الأصلي وهو وهب بن منبه، ولعله قد اختلط على الراوي، وعزاها لابن عباس بدل وهب» والنص المنسوب إلى ابن عباس رضي الله عنه هو الآتي: « أهبط آدم بالهند وحواء بجدة، من أرض مكة، وإبليس بميسان، والحية بأصبهان، وقيل أهبطت الحية بالبرية وإبليس بساحل بحل الأبلة» وبالعودة إلى هذا الثالوث المتداخل «حواء، إبليس، الحية» سنجد أنه جزء أصيل في المعتقد والنصوص المقدسة لدى اليهود.» وهذا يؤكد لنا تلبيس هذه الرواية عن ابن عباس.
- الخلاصة الخامسة: «كتبت الدولة العثمانية صفحةً جديدةً لهذا المقام، وتحول عندهم من قبر مختلف على وجوده إلى قبر تتبنى السلطات الرسمية رعايته باعتباره ضريحًا رسميًا لأمنا حواء وفق ما جاء في بعض وثائق الدولة على صعيد الأجهزة التشريعية أو التنفيذية وأخذت سيدات الأسرة الحاكمة في التنافس على بناء السور حوله، وتجديد الضريح وبنائه، وقيام أجهزة الدولة بذلك، بل وتوثيق كل ما يتعلق بالضريح في المحاكم والمجالس النيابية.. وقد ساعدت طبيعة هذه الدولة وطريقة تعاملها مع القبور والأضرحة في دعم هذا التوجه، ولذلك فقد شهد الضريح –المزعوم- عصره الذهبي مع الدولة العثمانية».
- الخلاصة الأخيرة: «من الثابت تاريخًا أن أيًا من أنبياء الله لم يقف على الموقع، وبالتالي فلا توجد أي إشارة لنبي حول وجود أمنا حواء بجدة بأي شكل من الأشكال، كما لم يذكر أحد من شعراء العرب ولا حكمائهم ولا المؤرخين ذلك، ثم لا يوجد للمقام والقبر أي أثر وشاهد توثيقي في فترة صدر الإسلام، ولا سيما أنّ الخليفة عثمان بن عفان قد زار المدينة وسبح في شواطئها وبخاصة في ما يعرف ببحر الأربعين القريب جدًا من مكان المقام والقبر كما هو واقع حاليًا، ولذلك فالمنطق يقول أنه لو كان معروفًا في حينه لما وسع خليفة رسول الله ومن معه من صحابة رسول الله أن يهملوه بالزيارة والدعاء على أقل تقدير...».
وبعد هذه الخلاصات لا يسعني إلا أن أحيل عنايتكم إلى حوار صحفي خُصص لكشف ملابسات وجود قبر أمنا حواء في مدينة جدة بين حقيقته وأسطرته. ويسرّنا في الثقافية أن نستضيف بهذا الحوار الباحث الذي استنرت كثيرًا بما جاء في مؤلفاته حول أمنا حواء والتي تكاد تكون الأكثر بحثيةً، وجديّة، واهتماماً بالموضوع وفق ما تحصلت عليه من أدوات ومراجع ومباحث -حتى ساعة هذا الملف- فكتابه الأول عنونه بـ» أسطورة جدة (أمنا حواء بين الأساطير والأديان والعلم» ا لصادر بعام 2020م وكتابه الأخير: « جدة.. وأمنا حواء عبق المكان وعمق الزمان» إنه الدكتور محمد أنور نويلاتي الذي اقترن اسمًا ومسيرةً بالطيران المدني إذ يعدّ أول رئيس للأكاديمية السعودية للطيران المدني؛ ولطبيعته ومسيرته العملية هذه قد يذهب المتابع لمسيرته بعيدًا عن كونه مصدرٌ هام لهذا الملف.. إلا أنّه بحق كان كذلك؛ فهو باحثٌ ومتخصص بذات التوقيت بمجالٍ نمى معه منذ الصغر وصار همّه وديدنه الوصول لما يضيء به الطريق لكل القادمين للبحث عن هذا الجانب المهم. والدكتور نويلاتي حاصل على شهادة ماجستير من جامعة وبستر عام 1981م ثم الدكتوراه من جامعة لي هاي 1986م وقد اكتسب نويلاتي خواص اهتماماته بهذا الجزء الهام الذي نبحث فيه اليوم لإثبات حقيقته أو أسطرته كونه جاور المكان لعقود طويلة، واستخلص روايات وحكايات دعته فيما بعد من تراكمها داخله إلى تحري الدقة فيما اختزنه ذهنه طوال تلك العقود ليجيء في زمننا القريب بأهم ما كتب عن قبر أمنا حواء في جدة وإمكانية وجوده من عدمه، فإلى نص حوار الثقافية معه:
* نشأ الباحث الدكتور نويلاتي في حي العمارية بجدة مجاورًا لمقبرة أمنا حواء وقضى سنوات الطفولة والصبا هناك فهل كان عند تأليفه عن حكايتها متأثراً بالأسطورة أم راغباً في الكشف عن الحقيقة؟
- الدافع الرئيسي كان المشاركة في الحراك الثقافي الذي تعيشه بلادنا كذلك لتقديم تحية وتقدير إلى مدينة جده وتاريخها العميق واختيار موضوع أمنا حواء كان طبيعي بحكم حقوق الجار. ومن هذه الحقوق تبيان أصول القصة وصحتها في القرآن وصحيح العقيدة بعيداً عن الإسرائيليات التي شوهت سيرتها العطرة والإسناد إلى روايات العلماء الثقاة في الجانب الشرعي والعلماء الآخرين في الجوانب الأخرى من العلم.
* في كتابكم «أسطورة جدة (أمنا حواء بين الأساطير والأديان والعلم)» ثمة نداءات كثيرة بالخلاص من تأصيل الأساطير والخرافات أو جعلها جزء من حياة الناس، والعيش تحت تأثيرها وتحديدًا عندما يكون الأمر متعلقًا بأم البشرية «أمنا حواء عليها السلام».. وبمثل هذه النداءات وغيرها أحدث ضجة عند إصداره ومثلي يتساءل: هل استطاع هذا الكتاب الذي أشبهه بقرع الجرس على ذهن متمسك بقصة مشطورة بين الحقيقة الغير مثبتة والأسطورة المتوارثة، والخرافة الصوفية؟ ثم هل توصلتم لقناعة تامّة بتأثير الأساطير على المجتمعات حتى ولو كانت متحضرة ومتعلمة؟
- تلعب الأساطير دوراً رئيسياً في تشكيل وجدان ومعارف المجتمعات الإنسانية وقد أوردت عدد من التعريفات لها توضح أنها ركن أساسي من أركان الحضارة الإنسانية وتقوم بدور فعال في تنظيم المعتقدات وتعززها. وفي تعريف أخر جاء في الكتاب أن الأساطير تنير جوانب النفس الأخلاقية
الدور الايجابي للأساطير ودورها في تطوير المجتمعات الإنسانية ومفاهيمها ومعتقداتها تختلف عن ذلك الدور الذي تلعبه الخرافات.
والأساطير تلعب دوراً في صياغة حاضر ومستقبل المجتمعات مثل الأساطير اليونانية التي انطلقت منها أسس الحضارة والغربية الحديثة.
* باعتباركم باحث عن الحقيقة ومجاور للقبر الأسطوري لعقود طويلة.. هل أنت مع وجود قبر أمّنا حواء بمقبرة جدة أم ضد؟ وهل يمكنكم إعادة النظر ذات يوم فيما توصلتم إليه من قناعات طوال سنوات بحثكم وتحرّيكم عن هذا الأمر الذي يمثل للعالم مبحثًا هامّا لإيجاد أمّه الأولى؟
- ابتداءً يجب أن نؤمن أن قصة حواء هي من صميم المعتقد الإسلامي ووردت قصة الخلق بوضوح في القرآن الكريم ولم تذكر إلا باعتبارها زوجة آدم ولم تذكر باسمها العبراني حواء في القرآن أبداً وتوجد مقارنة مفصلة في الكتاب بين زوجة آدم في القرآن وحواء العبرانية. منذ البداية كان تركيزي في البحث على تجديد الفكر والثقافة الإسلامية وليس فيما لو أنها دفنت في جده لأن الأدلة الواقعية عبر التاريخ تنفي ذلك ابتداءً من طوفان نوح الذي غمر الأرض كلها بالماء بما في ذلك القبور. ومروراً بأنه على مدى آلاف من السنين لم يذكر أن زار قبرها أي نبي أو شاعر أو فارس أو حكيم ليس هذا فحسب ولكن أول ذكر لهذا المقام جاء في القرن السادس الهجري عندما قال ابن جبير الأندلسي عن المقام أنها قبة على منزل حواء قبل صعودها إلى مكة وفي القرن الذي يليه قال الرحالة أبو القاسم يوسف السبتي أن هذا ليس منزلها ولكن قبرها كما يقول أهل جدة ولم يتعاطف مع هذا القول وفي نهاية القرن السابع الهجري زار ابن المجاور جده ورسم خريطة للموقع وقال أن اسم جده مأخوذ من اسم جده البشر. الأبحاث العلمية اليوم تركز على بداية البشر والهجرات البشرية الأولى أكثر من التركيز على قبور الأولين وتحثنا في الكتاب عن اهتمام العلم الحديث بحواء الميتكوندرين.
* الذي يقرأ كتابكم الأخير «جدة.. وأمنا حواء.. عبق المكان وعمق الزمان» وبأسفله عبارة «قراءة متجددة» سيعود فورًا إلى كتابكم الأول عن أمنا حواء المشار إليه في السؤال الثاني وقد يلتبس عليه الأمر بين حقائق مثبتة، وقراءة متجددة.. ألست معي بأن العبارة مدعاة للتأمل والتشكيك في حقيقة غير مثبتة أصلًا وأسطورة تغلغلت في الناس لقرون.. ولا سيما أنّ الدراسات والبحوث متجددة في كل عصر؟!
- عبارة قراءة متجددة المقصود بها أن الكتاب الثاني هو تأكيد وتأصيل لما جاء في الكتاب الأول بعد أخذ ملاحظات الكثير من المثقفين وأساتذة الجامعات والمؤرخين وكانت ملاحظات حول الضبط الأكاديمي في المقام الأول وأسلوب الكتابة الذي يميل إلى الاستطراد ومطالبتهم باختصار ذلك.
* المكتبة العربية برأيكم لماذا هي خاوية عن كتاب يثبت مكان إهباط ودهن أمنا حواء ؟ وفي المقابل لماذا حرصت الإسرائيليات على إثبات وجودها بالقرب من القدس وهل يمكن أن نجد لديهم دليلاً على وجودها في جدة ؟
- المكتبة العربية تردد ما جاء في الإسرائيليات حول إهباط حواء في جدة خاصة وأنه في عصر التدوين وهو القرن الثاني الهجري وقد ذكر ذلك بعض المؤرخين من أصحاب الثقل الفكري الكبرى مثل الطبري في كتاب التاريخ الذي أورد عبارة إهباط حواء في جدة بثلاث أسانيد وقد فند الكتاب هذه الأسانيد وإرجاعها إلى أصلها من المحدثين أصحاب الإسرائيليات.
القول بوجودها في بيت لمقدس هو أسطورة أخرى لا نقبلها لان طوفان نوح غير معالم الأرض فعلياً. المهم هو استنباط العبر من قصة آدم وزوجه كما أراد لنا القرآن الكريم وأثر التوبة وفضلها على العبد وقد أوردنا آراء ابن كثير من أن موضوع إهباط أمنا حواء وقبره من الإسرائيليات وكذلك دراسة محمد رشيد الرضا وغيرهم كثر.
* برأيكم لماذا أنفقت الدولة العثمانية طوال قرون وجودها بالحجاز حماية هذه الأسطورة، ولماذا اجتهدوا ببناء القِباب الأثرية التاريخية التي توحي لكل قاطني جدة منذ تاريخهم وحتى القرون التي خلفتهم بحقيقة هذا الوجود؟
- الدولة العثمانية دولة صوفية بامتياز وقد قامت بالتعاون مع الفرق الصوفية وعندما سيطرت على الحجاز حرصت على الاعتناء بالقبور في مكة وجدة والمدينة. أول من بنى المقام على القبر هو السلطان سليمان الثاني عام 1105هـ -1107هـ بعد أن تنافست سيدات البيت الحاكم على ذلك وأعيد ترميم المقام في فترة ولاية عثمان باشا قرملي والى الحجاز 1257-1261هـ وأعيد الترميم والتحديث في فترة السلطان عبدالحميد الثاني وقد وثقنا في الكتاب تفاصيل هذه الأعمال من الأرشيف العثماني، وفي جميع مكاتبات العثمانيين الرسمية يذكرون هذه الحقيقة لا تقبل النقاش.
* لجلالة الملك عبدالعزيز –طيب الله ثراه- موقف عظيم تجاه ما وجد الناس عليه في عهده من التبرك بالقبور، وبقبر أمنا حواء الأسطوري بمقبرة جدة وكان موقفه هذا أول إعلانٍ حكومي لطمس البدع والخرافات.. وقد أوردتم هذا في كتابكم حدثونا عن هذا الموقف؟
- الدولة التي أسسها الملك عبدالعزيز آل سعود -طيب الله ثراه - قائمة على صدق الإيمان وصلاح العقيدة الإسلامية بينما التقرب إلى الله من خلال الأضرحة والمقامات تتنافى مع ذلك وفيها كثير من الشركيات والاستعانة بغير الله ومن هنا فإن الدولة السعودية قد أخذت موقف مبدئي بإزالة هذه المقامات وليس قبر حواء فقط انتصاراً بصحة العقيدة وتجهيز المجتمع في الاعتماد على العلم وترك الخزعبلات والخرافات.
ختاماً: نعيش الآن ثورة ثقافية حقيقية وجهود البعثات العلمية العالمية والجامعات السعودية تبحث في التاريخ القديم لإنسان الجزيرة العربية والاكتشافات المبهرة تتوالى وتتضح صورة العمق الحضاري لإنسان الجزيرة العربية.
وبدورنا نتقدم للدكتور نويلاتي بعظيم الامتنان، ولولاه بعد الله وجهوده لما اتصلنا بالأزمنة، ولا وضعنا أيادينا على ثقوب كثيرة من أساطيرها، وتواريخها، وحقائقها، وعقائدها الفكرية.
وحتى نزيد الحكاية تأكيدات، ونثري القارئ بالقناعات، ونتركه أمام خيار واحد نتوجه وإياكم إلى الوجه الآخر من هذه الحكاية بتفاصيل مبنية على معايشة وشواهد ميدانية يكتبها لقرّاء الثقافية.. المهتم بتاريخ مدينة جدة الأستاذ خالد أبو الجدائل...
«قصتي مع أمّنا حواء من مرحلة الطفولة إلى أواخر مرحلة الكهولة»
تختلف علاقتي كابن لمدينة جُدة بمقبرة حواء عن علاقة أي إنسان آخر بها، علاقتي بمقبرة حواء لم تكن علاقة عابرة كانسان مسلم قدم من بلاد الشرق أو بلاد الغرب قاصدا جُدة كبوابة للحرمين الشريفين قبل ذهابه لمكة المكرمة لأداء فريضة الحج أو إتمام مناسك العمرة، حثه أقاربه أو رفاق قافلة الركب التي هو أحد أعضائها بضرورة زيارة قبر أم البشر حواء حتى أصبح متطلعا بشوق لتلك الزيارة.
عرفت هذه المقبرة منذ طفولتي في اللحظات التي أصبحت أدرك فيها كل شيءٍ حولي، فمولدي في حي العمارية (في أوائل عام 1382) للهجرة وإقامتي فيه حتى بعد تخرجي من الجامعة والتحاقي بالعمل أواخر عام 1406 للهجرة، المقبرة حسب تنظيم أحياء جُدة تمثل الجزء الشمالي من الحي، لقد زادت معرفتي بالمقبرة أكثر كلما انتقلت إلى مرحلة عمرية تالية حتى أصبحت مع أيام ذا علاقة وطيدة بها.
في مرحلة الطفولة، بدأت تتكون لدي حصيلة من المعلومات الشفهية التي كانت تروى عن ماضي هذه المقبرة من كبار السن يرونها من خلال مشاهداتهم أو مما رويّ لهم من الأجيال السابقة، حتى بدأت عندي مرحلة التسجيل الذهني في ذاكرتي تتفاعل مع ما شاهدته شخصيا في مراحل الطفولة والشباب لأحداث عشت فصولها، حاولت ربطها بما سمعته ممن يكبروني سنًا، دفعتني مجتمعة للبحث والتدقيق بعد تقاعدي المبكر أواخر عام (1437 للهجرة)، عن حقيقة قبر حواء سأعبر عن معرفتي بمقبرة حواء في ثلاث مراحل عمرية: الطفولة والشباب، وأواخر مرحلة الكهولة قدر المستطاع في هذا المقال:
* اعتاد البعض على زيارة مواتهم بعد أداء صلاة الجمعة في كل أسبوع وتوزيع ما تجود به نفسه على الفقراء الذين ينتظرون عطاياهم، وكذلك في أول أيام عيد الفطر بعد أداء صلاة العيد وسماع الخطبة مباشرة وهذه من العادات المتوارثة وليست من العبادات.
* أخبرني والدي عما كان يحدث قديما: وهو أن بعض الذين يجدون قراءة القران وترتيله كانوا يجلسون في مداخل المقبرة فيأتي البعض ويطلب منهم قراءة ما تيسر من القران الكريم على قبر أحد أقاربه ويمنحه مقابل قراءته مبلغًا من المال.
* في طفولتي كان والدي رحمه الله اعتاد على اصطحابي في أوقات زيارته للمقبرة وغالبًا ما كانت هذه الزيارات تتم في الصباح الباكر قبل موعد وجبة الإفطار من أجل الدعاء لعامة أموات المسلمين، ومن انتقل إلى رحمة الله وكانت له بهم علاقة صداقة أو وصلة نسب أو قرابة، وفي نفس الوقت لإشعار النفس بان العمر مهما طال فإن الأجل محتوم.
* كانت المقبرة محاطة بسور شاهق استخدموا في بناءه الحجر المنقبي المستخرج أما من بحر جُدة أو من أحد مناقب استخراج الأحجار في الضواحي المحيطة بجدة التاريخية التي أصبحت فيما بعد أحياء سكنية يتم حاليا إزالتها وتخطيطها لإعادة إعمارها بما يتواكب مع رؤية المملكة العربية السعودية (2030).
* كان للمقبرة ثلاثة (3) أبواب على النحو التالي: الباب الرئيس للمقبرة يقع في الجانب الجنوبي للمقبرة صنع من الخشب وذا حاجز حديدي في منتصفه يمكن الإنسان أن يقف في الخارج ويشاهد المقابر ويتيح له أن يلهث بالدعاء لأموات المسلمين طالبا من الله المغفرة والرحمة لهم، وهو باب دخول الجنائز، وهناك باب آخر في الواجهة الشمالية لم يكن يستخدم حسب ما قيل لي إلا نادرا وقد أشار إليه الأديب عبدالقدوس الأنصاري في موسوعته بان العمران الذي أقيم شمال المقبرة وتم إزالته عند توسعة شارع المطار القديم غطى معالمه ولم يظهر الباب إلا بعد عملية الإزالة. أما الباب الغربي فكان القبر المزعوم لحواء يمتد من بعد دخول المقبرة بمسافة حيث يصل امتداده إلى مسافة قريبة للجانب الشرقي لسور المقبرة كما قيل لنا وشاهدناه فيما بعد ضمن بعض الصور التي التقطت قبل عملية هدمه.
* أبناء جيلي لم يشاهدوا موضع القبر بل كنا نسمع بان في هذا الموضع دفنت ام البشر حواء وان القبر الذي يجسد هيكل جسدها الحقيقي تم هدمه بعد دخول الملك عبدالعزيز مدينة جُدة في اليوم الخميس الثامن من شهر جمادى الآخرة عام (1344 هـ)، وان هناك شخصيات معينة كانت تتولى أمر مرافقة الوفود القادمة للحج أو العمرة أثناء زيارتهم للمقبرة ويقومون بدور المزورين بتلقين تلك الوفود بعض الأدعية والأقوال التي يرددونها خلفهم عند ذلك القبر المزعوم لحواء معتقدين بصحة ممارساتهم، الا ان هدم القبر بناء على فتوى رجال الدين قضى على جزء كبير من تلك الممارسات الخاطئة وآخر مشاهد قبور أهل الضلالة.
* يجدر بي أن أشير إلى أن قبة حواء أزيلت في (25/ 2/ 1225) للهجرة زمن سيطرة الدولة السعودية الأولى على إقليم الحجاز الا انها تم إعادة بنائها مرة أخرى في عهد والي الحجاز عثمان باشا القرملي الذي تولى هذا المنصب خلال الفترة من (1257-1261هـ/ 1841-1845م).
* كنت أشاهد وفوداً من الحجيج والمعتمرين من مختلف أنحاء العالم الإسلامي القادمين برًا أو جواً أو بحراً يقومون بزيارة المقبرة ويأخذون في أكياس صغيرة حفنة من ترابها أو يتولى أحدهم بيعها لهم قد يكون القصد من اخذ هذه الحفنة التبرك بها أو استخدامها للتداوي بها من أمراض معتقدين بقدسية ترابها.
* كان أحدهم يستغل جهل الحجاج ويأخذهم إلى مدخل داره ويقول لهم كان أبونا آدم يؤدي فروضه في هذا الموضع، وقد يصل به الحال أن يصلي بهم ركعات.
* أخبرني والدي أن بعض الأفارقة القادمين لأداء فريضة الحج قديما يذهبون إلى مسجد الشافعي وهو من أقدم المساجد التي أنشأت في مدينة جُدة ويروى انه شيد في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه ثم أعيد بنائه وترميمه عدة مرات فيما بعد.
* كان ذهابهم لمسجد الشافعي اعتقاداً منهم بأنه مسجد أبونا آدم عليه السلام ولا يدري والدي من أين جاءهم هذا الاعتقاد الخاطئ ق د يكون من نسيج أفكار من حاول أن يقنع العامة بصحة وجود موضع قبر حواء في مدينة جُدة أو لإضفاء سمة المدينة الفاضلة عليها.
* أول مرة أشعر بالخوف والوجل في نفس اللحظة عندما توفيت جدتي لامي في أحد أيام شهر شعبان عام (1387) للهجرة، كنت في سن الطفولة قبل التحاقي بالمدرسة، عندما نزل والدي -رحمه الله- لداخل قبرها ليتلقاها من أيدي مشيعيها، لقد كانت سيدة فاضلة تعني له الشيء الكثير، فيما تعتبره في مقام ابنها، لقد خفت عليه عند نزوله وتمتمت ببعض الكلمات تعبيرا عن ذلك الخوف والوجل لعدم إدراكي لسبب نزله في القبر، طمئنني أحدهم قال لا تخف كأنه يشعر بما في داخلي، وعندما صعد من القبر شعرت كأن الروح عادة لي مرة أخرى.
* تذكرت هذا الموقف بعد ما يزيد عن عقدين من الزمان عندما توفيت والدتي ودفنت في مقبرة حواء بناءً على رغبتها في جمادى الأولى عام (1420 للهجرة)، لتكون في نفس المقبرة التي دفنت فيها والدتها - رحمهما الله.
* في عهد أمين مدينة جُدة معالي الدكتور محمد سعيد فارسي تمت إزالة سورها وأعيد إنشاؤه كما نشاهده في وضعه الحالي مع إعادة تنظيم المقابر داخل السور وتجديدها (يقول أهل جُدة لصف المقابر فاسقية).
* تلا تلك الفترة عدة تحسينات أجريت للمقبرة.
* وفي (أواخر ديسمبر 2018م)، تم بناء المدخل الغربي وأصبح ما تبقى من البوابة الشمالية جزء من المدخل الرئيس لاستقبال الجنائز وإجراء مراسيم التعزية في المقبرة.
* كان من المخطط أن يتم إزالة العقارات التي تقع في شرق المقبرة وجنوبها لصالح المقبرة وعقد اجتماع في مبنى أمانة جُدة قبل جائحة كورونا مع ملاك تلك العقارات وتقف المشروع.
* في الحقيقة عظم مكانة قبر حواء لعامة مجتمعات الأمة الإسلامية، وجعلوا للقبر مكانا للرأس والقدم، والسرة، حتى يطفوا عليه سمة الواقعية يتزعم فريق المعظمين لمكانة القبر المبتدعين وأصحاب الفكر الضال من أتباع الطرق الصوفية المنحرفة في عقيدتها ومن يعيش في ظلال فكرهم، وأصحاب المنافع الذاتية من المزورين والقائمين على العناية به في زمن كانت الدول التي بسطت نفوذها على إقليم الحجاز ذات علاقة وطيدة بذلك الفكر الصوفي المنحرف وتشجعه وتدعمه.
* وقد أشار الأستاذ محمد بن عبدالرحمن بن خميس أن الناس أدركوا زمن الدولة الهاشمية من يتخذون من مقبرة حواء مكانا للشعوذة ويدخل إليها الحجاج للتبرك ويستدرون المنتفعين منهم الأموال بهذه الوسيلة.
* يروى أن سدنة القبر حواء كانوا في أحد العصور يجنون أموالاً لا يكاد تحصى سنويا.
* حولوا أسطورة المقبرة إلى واقع حقيقي لا غبار عليه في زمن كان التعليم في مدينة جُدة محدودا، يعتمد على جهود معلمي الكتاتيب المنتشرة في محال جُدة التاريخية الثلاث (اليمن والمظلوم والشام) حتى جاء عام (1291) للهجرة، حيث أسست في ذلك العام أول مدرسة نظامية بجدة عرفت بالرشدية تدرس موادها باللغة العثمانية، عرفت في العهد الهاشمي بالراقية الهاشمية بعد تعريب منهجها الدراسي، وتعرف منذ أوائل العهد السعودي الزاهر بالمدرسة السعودية كان موقعها في محلة الشام، تبعتها تأسيس بعض المدارس الأهلية التي لم يستمر منها منذ تأسيسها عام (1323 للهجرة)، حتى الآن سوى مدرسة الفلاح بمراحلها الثلاث التي مازالت تقع في مكانها في محلة المظلوم.
* إلى جانب هذه المقبرة وما يمارس بجوارها كانت الفرق الصوفية كالسمانية والبدوية والجيلانية، والشاذلية والعلوانية والسنوسية وان كانت أكثر الفرق الصوفية اعتدالا عن غيرها لها زوايا أو مساجد أو مجالس ذكر تمارس طقوسها بأريحية وقد يصلها الدعم المادي المعنوي وتجد قبولاً من أتباعها في المجتمع ورعاية وعناية بعض أركان النظام الحاكم في تلك العصور، علاوة على بعض المقابر أو المشاهد التي كانت تزار للتبرك كقبر عفيف الدين المظلوم الذي عرفت محلة المظلوم نسبة إليه، وأبو بكر العلوي الذي اشتهر سوق العلوي نسبة إليه، وأبو حنة الذي إزاله قبره نوري باشا قائمقام جُدة واستفيد من موضعه في إنشاء سوق النورية الخاص باللحوم والخضر في القرن الثالث عشر الهجري، والأربعين الذي اشتهر باسمه بحر الأربعين، وأبي العيون الذي اشتهر باسمه بحر أبي العيون الذي كانت تزوره النساء للتبرك بقدرته في جلب الأزواج لغير المتزوجات والمرضى للاغتسال بنية الشفاء، وعلي أبو عنبة ومازالت زاويته موجودة للوقت الحاضر، والعقيلي الذي مازال مسجده موجودا للوقت الراهن بعد تجديده.
* أزيلت تلك المقابر او المشاهد في العهود الماضية وخصوصا في عهد محمد بن عون أمير مكة في العصر العثماني، إلا أنه لم يستطع هدم مقبرة حواء لتدخل قناصل الدول الأجنبية يتزعمهم القنصل الانجليزي بقولهم إن قبر حواء لا يخص المسلمين فقط بل كافة البشر، وان كان هناك رواية تشير انه لم يهدمه خوفا من عزل السلطان العثماني له.
* استند المدافعين عن قبر حواء المزعوم على روايات قصصية متناثرة في كتب التراث العربي الإسلامي غير محققة بأن ام البشر حواء ماتت ودفنت في هذا الموضع بالقرب من البحر بمدينة جُدة، ولم يكتفوا بهذا القدر بل جعلوا من ذلك المشهد المزعوم لقبرها موضعا للدعاء والتبرك والتقرب والتذلل لغير الله.
* أغلب من وطئت قدماه ارض جُدة من الرحالة العرب والمسلمين والمستشرقين والمؤرخين زاروا قبر حواء وانقسموا في آرائهم إلى ثلاث فرق:
* - الفريق الأول الباحث عن الحقيقة النافي لوجود قبرها في هذا الموضع تماما مؤكدين أن قبرها مجهول فهل يعقل ان يبقى على وجه الارض أثرٍ بعد الطوفان الذي حدث زمن سيدنا نوح عليه السلام بل أحد المستشرقين شبه قبرها بقبر سيدنا نوح الموجود في بلاد الشام، بل إن القبر المزعوم الذي يجسد هيكل جثمانها لا يتناسق مع جسد الإنسان بصورته الطبيعية. فقد قدر طول قبرها المزعوم قرابة الثلاثمائة (300) ذراع أو (150) متراً وعرضه (3) أمتار.
* - الفريق الثاني الفريق الجازم بوجودها وممن جزم بأن قبرها بجدة ابن خلكان، وحتى يقنعوا الآخرين بحقيقة دفنها في هذا الموضع يقيل أن اسم مدينة جدة جاء من «جدّة» أي جدتنا حواء، وأنها أول ما نزلت من الجنة هبطت في مدينة جدة.
* - الفريق الثالث الناقل لكلا الرأيين دون تدقيق في صحة الروايات التي تزعم وجود قبرها في هذا الموضع وقد سار هذا النهج الكثير ممن اهتم بتاريخ جُدة.
* الدراسة البحثية التي قام بها الدكتور محمد أنور نويلاتي ابن حي العمارية الذي كان يقيم بجوار مقبرة حواء كنت متابع لمراحل إنجازها بفضل العلاقة الوطيدة التي تربطني بالدكتور محمد، هذه الدراسة تعتبر أول دراسة بحثية عن المقبرة تصدر في صورة كتاب يتحدث بواقعية وحيادية بعيدا عن العاطفة، صدر في نسخته الأولى بمسمى (أسطورة جُدة أمنا حواء بين الأساطير والأديان والعلم) وفي نسخته الثانية بمسمى (جُدة وأمنا حواء عبق المكان وعبق الزمان: قراءة متجددة) اثبت لكل جازم أو متردد في نفي وجود جثمان أمنا حواء في هذا الموضع بأن معتقده كان قائم على روايات أسطورية نشأت أثناء عبث الإنسان بتاريخ جُدة ينكرها الواقع ولا يصدقها العقلاء. انتهى.
ومع آخر هذا الملف المولود من رحم البحث والشواهد الميدانية والإنسانية والمكانية والتاريخية والشرعية.. لم يبق لدينا من وسائل غير وضعه بين يدي الجهات المعنية كهيئة السياحة والآثار لعلها تضع كمًا كبيرًا من بحوثها وتحليلات تربة المقبرة أو لتضع النقطة المتبقية على آخر هذه السطور في زمننا الذي صار فيه العلم أكثر عِلمًا، والتقدم والتكنولوجيا البحثية والتحليلية قادرة على إيجاد استنتاجات مقاربة للصواب ومحاذية للحقيقية ولاغية تمامًا لكل الأساطير التي لا يلغيها غير العِلم واليقين...
وبدورها الثقافية تتمنى أنها قدّمت دراسةً كافيةً شافيةً في سبيل البحث والكشف، مجددةً شكرها إلى كل من أسهم في إنجاح هذا الملف وبينهم الدكتور محمد أنور نويلاتي، والأستاذ خالد صلاح أبو الجدائل مثمنين كل ما قدمّوه، وبعثوا به...
وتجدر بنا الإشارة إلى تلقي جميع التعقيبات من القرّاء والمهتمين عبر البريد الإلكتروني التالي: j.madkhali2009@gmail.com