زكية إبراهيم الحجي
عندما وُلِدت الصورة مع المرآة وفقاً للأسطورة الإغريقية التي تقول: حينما انحنى ذلك الشاب الوسيم ليشرب من غدير الماء رأى انعكاس صورته على صفحة الماء فبهره حسنها وافتتن بها وهو لا يعلم أن الصورة التي وقع في حبها ليست إلا ظله المنعكس على صفحة الماء الرقراق.. نرجس الشاب الوسيم قاده العشق الذاتي لنفسه ونرجسيته التي هام بها إلى نتيجة قاتلة إلى الفناء الأبدي بعد أن تاه خلف صورته على مرآة الغدير لتنمو على ضفافه براعم زهرة النرجس المتغطرسة.. وبميلاد المرآة الصورة وُلِدت الثنائيات (الأنا الأنت.. القبح والجمال الخيلاء أو النرجسية يقابلها التواضع إلى غير ذلك من الثنائيات التي لا حصر لها).
إذا كانت سمة النرجسية تدور حول افتتان المرء حد الخيلاء بصورته المنعكسة على مرآة فذلك يعني بعداً رمزياً يتجاوز سيطرة الشعور وهذا البعد الرمزي يتمثل في ثرثرة تبدأ بضمير (أنا) لعلها ظاهرة يريد منها صاحبها بناء مجد له ورغم أنها ظاهرة غير محمودة ينفر منها كل من يسمعها إلا أننا لا يمكن أن ننكر أثرها المحمود عندما تأتي في الأدب والشعر وتفيض قرائح الشعراء تعبيراً عن مكنونهم الشعري المفعم بعذوبة القوافي وسحر البيان.. فبعض الشعراء يعيش النرجسية ويتملكه الشعور بالفوقية فهذا الشاعر الذي ملأ الدنيا وشغلت شهرته الناس «المتنبي» يقول بكل شموخ واعتداد بالنفس:
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي
وأسمعت كلماتي من به صمم
عطفاً على ما سبق يمكن القول بأن النرجسية نمط من سلوكيات مُعظِمة للذات تؤثر سلباً في العديد من مجالات الحياة المختلفة بما فيها العلاقات الاجتماعية والأسرية والمهنية.. ولا يفوتني في هذه المساحة أن أشير إلى أن النرجسية بتداعياتها ضخمت شعور الأنا عند الرئيس السابق لليبيا معمر القذافي ليرى أبناء شعبه كمجموعة من الجرذان استوجبت إبادتها زنقة زنقة فقد اعتقد هذا الرجل أنه الوحيد الذي يتلقى الالهام في فلاة الصحراء وهو المميز في نخوة الأصالة..
إنها نفس جينات النرجسية الاستعراضية التي لازمت الامبراطور الروماني نيرون قبل أن يحرق روما عام 64 م.. وبدون أدنى شك فإن النرجسية ليست إلا صورة من صور تدني الوعي والبقاء في جهل الذات ولا يمكن التخلص منها إلا عن طريق كشف القناع عن الذات وإدراك الحجم الحقيقي لها.