د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
** مضى زمن اعتمدت فيه الإذاعة السعودية على البرامج المسجلة، وكانت السادسة مساءً موعد تسجيل برنامج (نسيم الصباح) في الرياض، ومن الطرافة أن كان مذيعو البرنامج يصبحون على الناس في غروب يوم سابق، وفيما عدا النشرات والمواجز؛ فلا بث مباشراً سواها، وعندما سعت الإذاعة لتقديم برنامج ليلي على الهواء خلال حرب تحرير الكويت، فإن التجربة لم تطل، وعاد البرنامج لمسار التسجيل، ثم تبدل الزمن، وتبدل معها الهيكل البرامجي، ولم يعد لإدارة الإنتاج حضور.
** استعادت الذاكرة هذا المشهد الإعلامي وقت متابعة سيرة مرئية عن الرئيس الأميركي السابع والثلاثين ريتشارد نيكسون 1994- 1913م، وورد فيها بلسانه أن «البث المباشر يشبه الموت المباشر»؛ فحكى واقعاً عاشه حين أخفق في انتخابات الرئاسة عام 1960م، وحكم ولاية كاليفورنيا 1962م، ثم فضيحة «ووترغيت» 1974م، وما أفرزته تصريحات وبرامج الهواء.
** اليوم صار كل شيء مباشراً، ولا مكان لإعداد أو استعداد، وصدقت مقولة الرئيس «المستقيل» في مسلسل (ديك المخادع) 2019م TRICKY DICK- («ديك» -بالمناسبة- مختصر «ريتشارد» وفق نهج الأميركيين في تكييف أسمائهم للتعامل العفوي؛ فـ»بيل» بدل «وليام» و»ديف» بدل «ديفيد»، وليتنا ننتهج بعض يسرهم كي لا نظل في دائرة حشو الألقاب الوجاهية التي تفوق طول الاسم والأسرة والقبيلة مجتمعة)
** نعود إلى عبارة: «البث المباشر- الموت المباشر»، وقد ترون أنه لم يتجاوز الحق الذي نؤمن به: (وهل يكب الناس على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم) غير أن وعينا بهذا يقل عن ممارستنا، وبخاصة بعدما صار بإمكان من شاء متى شاء البث المباشر كلمةً وصوتاً وصورةً، وما أكثر ما نقرأ ونسمع ونرى ما يسوء العين والأذن والذهن في الأحاديث والتعليقات المنفلتة.
** الصغير يكبر، والشاب يهرم، والجمال يذوب، وشهدنا كثراً أحرقوا أوراقهم حين أحسوا بدنو آجالهم، وفي التراث كما المعاينة أمثلة، وأوصى السلطان سليمان القانوني أن يدفن معه صندوق يحوي فتاوى علماء زمنه، وكذا صنع الأستاذ محمد جلال كشك بثلاثة كتب طلب أن توارى معه من بين تسعة وعشرين كتاباً، هي مجموع مؤلفاته، وفي دلالات الحكايتين الرمزية أمل شفاعة وطلب براءة، وعفا الله عنا؛ ففي إرث أكثرنا آلاف الكلمات، والصور، والمسامع، والمشاهد، ويبقى أن نألم لمن يسمون حيواتهم -وقد سترها الله- بما يعيب أعمارهم وأعمالهم، وليصبح البث المباشر موتاً حقيقياً لفكرهم وذكرهم معاً.
** الحياة لا تأذن لنا بأن ندخر بقايا صحة أو سعادة؛ فكأنهما ماء المطر يستأثر به نبت مصوح لا يلبث أن يعود إلى جفافه؛ فلنستقبل نفادهما بما يعوضهما إذ لن نقدر على فرز ماء النهر العذب من مياه المحيط المالحة، وكذا الحياة تخلط القدرة بالعجز فلا نستبين مواقعنا؛ أفي منبع الماء، أم مصبه، أم ضمن تعرجاته ووسط شوائبه؟
** ما يوارى يتعرى.