الهادي التليلي
الفن والترفيه من الفعاليات التي تستطيع النفاذ دون إذن إلى مختلف أوجه الحياة إنها الإنسان عندما يحتاج إلى قتل السأم والقلق والملل وهي الإنسان وهو يحتاج إلى طاقة دافعة نحو أفق أكثر إيجابية نحو نجاحات أفضل تحتاج إلى حافز وهي الإنسان وهو يتواصل لأن فعالية الترفيه بمختلف وجوهها هي مجال تواصل وتلاق اجتماعي حول محور معين متفق على خطوطه العامة، وفي كل هذه التقاطعات تكون علاقة الفعالية الترفيهية بالإنسان في سياق يشمل الفعل والتفاعل، فالإنسان يبدع المجال الترفيهي الذي تحتاجه المجموعة والظرف والفعل الترفيهي يفعل فعله في الإنسان بشكل يكون أداة تعبير من ناحية وخطة علاجية من ناحية، ومفتاحا من مفاتيح النجاح من ناحية أخرى وكذلك شكل من أشكال إبراز الأنا الجمعي أمام الآخر.
فمعادلة الفعل والتفاعل تبقى سيدة الموقف في علاقة الإنسان بالفعل الترفيهي وإن كان الفصل بين الإنسان والترفيه مجرد إجراء منهجي يفترضه تفصيل الحديث حول الظاهرة وعلاقة الترفيه بالحرب لا تخرج أبدا على هذه السياق تقريبا حيث ان الحروب كانت تحتاج للترفيه إذ ليست الحرب أبدا مجرد معارك بين طرفين وأكثر إنها حياة كاملة ومجتمع يتشكل بين كل المشاركين فيها، ومن بين أهم معاول البناء الحربي في جانبه السوسيولوجي والبسيكولوجي يستوقفنا مشهد الترفيه خارج أوقات المعارك وأثناءها ففي العصور القديمة كانت العروض الفرجوية المتخللة للحروب وحتى المفتتحة لها ذات التأثيرية العالية شاهدا على الحس الفني الملحمي لدى الرومان والإغريق حيث كانت معادلة فضاء العرض والباث ونعني هنا الفنان والمتقبل ونعني هنا الجمهور وهم في الغالب الجنود وتعتبر هذه السردية متكررة في مختلف مجالات هامش الحروب وحتى مركزه
التصاق الحرب بالترفيه ومختلف التعابير الفنية والجمالية جعل الكثيرين من علمان الانتروبولوجيا خاصة ومن بينهم «لين كي هول» و»ماريان ميكاو» يرون أنه مثلما فعلت الموسيقى في الحروب وسائر التعابير الجمالية فإن الحروب فعلت في الموسيقى وسائر التعابير الجمالية فظهرت الموسيقى الحربية والأناشيد الوطنية المعززة للروح الوطنية والانتماء في مواجهة الآخر وإبراز الذات
الترفيه زمن الحروب كان مسألة أساسية لجعل روح الانتصار والمعنويات عالية في مقاومة السأم والخوف والقلق وتخفيف البعد عن العائلات، خاصة مع طول أمد الحرب لذلك في الحروب القديمة وحتى الموغلة في القدم كانت الموسيقى حاضرة فلو نظرنا إلى الإلياذة والأوديسة لهوميروس والشكل الذي كتبت به والذي يعد من أساس الشعر الملحمي والجمالية التي صيغت به يعتبر تحفة جمالية تخلد لحظتها وتبرز ذائقة جمالية سائدة ربما يكون هذا النص أرقى ما وصل إلينا منها وصورة الآخر المتلقي فيه وما توسل به من أدوات ووسائل تعرفنا أن الترفيه في تلك اللحظة بمختلف تفاصيلها غنية بالجمال والإبداع ومسكونة بالفن كما أن بعض الكتب السماوية اعتبرت أن الفن الموسيقي مؤثر في الحروب عند الحديث عن السور الكنعاني الذي أسقط بفعل العزف الموسيقي.
ولو نظرنا حتى إلى» تشارلز داروين» عالم الأحياء إذ يقول «كلما استخدمت العصافير الأصوات والألحان التي تنشدها في جذب الشريك كلما طور الإنسان الموسيقى لنفس الغاية «فكانه يقول الموسيقى ليست فقط في عالم الإنسان وإنما الترفيه موزع في الطبيعة وحتى عند الطيور وهو ما أكده عالم الانتروبولوجيا المعاصر هاغن من جامعة واشنطن من كون الجنس والتزاوج جزآن من قصة الموسيقى لأن الفن والحب والعاطفة الرقيقة هي من حركت وتر الموسيقى في شكلها العاطفي البشرية تحتاج إلى الترفيه إلى الطرب الذي يعطف القلوب على القلوب كما يقال بل وحتى في الحروب يرى هاجن الموسيقى زيادة على أدوارها لها دور تواصلي عبر شفرات بين الأفراد على شاكلة الطيور والحيوانات فكان العبور والمرور السري من خلال بث أغان أو الإنشاد بأعلى صوت رسالة حربية.
ولو وصلنا إلى الحربين العالميتين أولا نجد حربا ترفيهية فنية أخرى بين الأطراف وهنا يحضرنا محتوى الرسالة التي وجهها برناردشو لصديقه في فيينا في سياق المعركة الأخرى بين بريطانيا وألمانيا معتبرا بريطانيا أصبحت تقصي الموسيقى وهو ما نشرته إحدى الصحف البريطانية في 1915 متسائلة عن سبب الهزيمة الفنية بين بريطانيا وألمانيا ولعل ما يختفي خلف هذه الضجة هو اعتماد هتلر وأهم القادة الكليانيين بشكل كبير على الموسيقى التأثيرية في التعبئة والحروب ومعلوم أن هتلر يعد من المتيمين بالموسيقى السنفونية وبخاصة بالموسيقار لودفيج فان بيتهوفن وحتى بريطانيا ودول الاستعمار القديم كانت تقيم مهرجانات كبيرة للرقص والغناء أثناء مدها وزحفها وحروبها وهنا تترجم السينما الهوليودية والبليودية هذه الظاهرة ولعل أكثرها تأثيرا شريط النجم الهندي شاهد كابور وسيف خان «رانغون RANGOON» والذي يترجم الحياة الترفيهية الموازية للحرب وتحديدا الحرب الموازية للحرب المألوفة ونعني بها الحرب الترفيهية وفي الحقيقية كل الأفلام البوليودية التي أرخت لمرحلة التحرر من الاستعمار البريطاني مثل «غاندي «و»أسطورة بهجت سنغ THE LEGEND OF BHAGAT SINGH» حفلت بهذه الشواهد
حاجة البشرية للترفيه أعمق وأشد من حاجتها للحروب إنها الحاجة للحياة الحاجة لأن يكون الإنسان إنسانا خارج جبة القسوة والشدة العسكرية التي تمس من حرية الإنسان وتهدد مصيره ولعل الحادثة التي وثقها الضابط البريطاني كليمنت بيكر سنة 1914 حيث روى أنه خلال أيام احتفالات الميلاد المسيحية أثناء الحرب بين البريطانيين والألمان برزت الحاجة للترفيه بين الأطراف المتواجهة قبالة بعضها في تلك الحرب وبادر أحدهم بطلب مهلة فرح سرية استجاب لها الطرف الآخر فغنوا سويا حسب رواته ورقصوا ولعبوا الكرة مع بعض إلى حدود الفجر وللتغطية على ذلك أمام كبار مسؤوليهم تقدم بعض الجنود لكل فريق طوعا كأسرى ليتم التبادل بينهما بشكل فوري واعلموا رؤسائهم بذلك رواية كليمنت بيكر نشرتها صحيفة ميرر في سنة 2012 وبقيت درسا في حاجة البشرية للترفيه المتحدية لكل الأوامر الفوقية الترفيه في الحرب العالمية كان حاضرًا حتى في مقصورة الدبابة شديدة الضيق من خلال الراديو والموسيقى كانت مع الجنود في حروبهم أقرب إليهم من أنفسهم بل أنه في دراسة بريطانية حول الشعر زمن الحرب ذهب الباحثون أن قصائد الشعراء الأسرى في الحروب كانت مدرسة أدبية في حد ذاتها فالترفيه بمختلف تعبيراته يجعل من الحرب ذاتها مجالاً تنفيسيًا عملاقًا ومشهدية تعبيرية عملاقة على المها هي لوحة ترفيهية لدى الكثيرين .
في عالمنا العربي المعاصر تبقى الكلمة التي قالها الفنان المصري محمد منير أمام رئيس بلده في ذكرى حرب 1973 مؤثرة جدا وعميقة في رمزيتها حين قال «معركة 73 رافقها مبدعون وفنانون» ويعني أن كل محارب كان في جيبه ترانزيزتور يسمع بواسطته الأغاني التي كانت محفزة و باثة لروح انتصارية عالية ولا يمكن ان ننسى كوكب الشرق أم كلثوم قبل ذلك حيث اتهمها الكثيرون بأنها كانت من أسباب هزيمة 1967 وشعرت بإحباط ودخلت في عزلة إلى أن طلب منها أن تؤدي أغاني وطنية محفزة خدمة لوطنها وفعلا كان ذلك حيث خرجت من عزلتها وأصبحت تبث البهجة لا فقط وتجمع التبرعات للقوات المسلحة آنذاك أيضا ولعل أهم عروضها بالداخل المصري حفلات البحيرة و الإسكندرية والمنصورة وطنطا و غيرها ليطلب منها بعد ذلك شارل ديغول زعيم فرنسا أن تقيم حفلاً في قاعة الاولمبيا قائلا: «لقد خرج العرب بعد هزيمة 67 بمأساة وأريد من أم كلثوم رفع معنويات العرب هنا في فرنسا «نجاح أم كلثوم في بث روح ترفيهية عميقة تنقل الجمهور الكبير من مرحلة القلق والتشاؤم إلى مرحلة التفاؤل بعد هزيمة قاسية واستنجاد رئيس دولة من طينة شارل ديغول بأم كلثوم أكبر درس على قوة الترفيه في معالجة الشعوب من الآثار السلبية للحروب ذلك هو الترفيه فعلا إنه المصل المضاد لآثار الحروب والإرهاب وغيرها من الآفات المهددة للإنسان ولم يكتف الأمر عند هذا الحد حيث قام زعماء دول عربية بدعوتها لمعالجة الشعوب من مرارة الخيبة بل واستقبلها كل الرؤساء على مدارج الطائرة فكان أن أقامت حفلات تسجل في الذاكرة والتاريخ وكانت في كل من تونس ولبنان والسودان والمغرب وباكستان والبحرين وليبيا والعراق، أم كلثوم أيقونة الترفيه الموسيقي العالمي في زمنها كانت تمارس الدبلوماسية الثقافية بامتياز وقدمت لبلدها مبالغ هامة كمساعدة للمجهود الحربي بل إن عبدالناصر كان قد منحها جوازًا دبلوماسيًا وفي ذلك أكثر من رسالة بكون الترفيه زيادة على كونه علاج لمآسي الحروب هو إستثمار تستفيد منه الدول.
الترفيه زمن الحروب كالنفس بالنسبة للمختنق وهو أكثر من ضروري كما أنه زمن السلم أيضاً يعد مسألة وجودية أيضاً.