عبدالوهاب الفايز
بقي سبعة أيام لانتهاء الفترة التصحيحية للتستر التجاري، والبرنامج الوطني لمكافحة التستر التجاري في وزارة التجارة منذ بضعة أشهر وهو يبعث الرسائل للمتسترين والمتسترات (40 في المائة من المنشآت المتستر عليها بأسماء نساء)، ورسالتهم هي: (بادر وصحح تجارتك قبل: 16 فبراير 2022م). الذي نرجوه أن تكون الأجهزة الحكومية مستعدة للتوسع في الرقابة والتفتيش على الأنشطة التجارية الخاضعة للتستر، فالاقتصاد الوطني عانى في الثلاثة عقود الماضية من سرطان التستر التجاري!
اقتصادنا الوطني عانى من تبعات التستر التجاري ومن الأنشطة والمعاملات التجارية الخفية في (الاقتصاد التحتي، أو الخفي)، وعانى أيضا من تبعات الدعم الحكومي الواسع غير الرشيد.. وهذه الظواهر استنزفت ثرواتنا، فحجم الأموال السنوية المهدرة لا تقل عن 400 مليار سنويا، في التقديرات المتحفظة. وهذا الهدر، بالذات في استهلاك الطاقة، بُدئ بمعالجته عبر إجراءات مؤلمة، ولم تكن الحكومة ترغبها، ولكن الشرايين النازفة تحتاج التدخلات الضرورية والحاسمة.
الجهود الحكومية لمكافحة التستر التي نتطلع إلى ثمارها ربما لن تتحقق إذا لم نطور السياسات والإجراءات التي تعالج (جذور المشكلة)، وتنظر في البيئة المولدة والحاضنة للتستر الجاري مثل: (ساعات العمل في القطاع الخاص، وفي تجارة التجزئة). حتى نهاية السبعينيات الميلادية كان النشاط في تجارة التجزئة غالبًا في يد السعوديين خصوصًا كبار السن العاملين عبر التجارة، أي موظفين. كانت دكاكينهم مصدر عملهم ورزقهم، ومن ريعها الدائم البسيط عاشت أسر ممتدة بكرامتها، وكانت الأجيال تتواصل في النشاط، ومن تلك الدكاكين البسيطة خرجت مجموعات تجارية عملاقة.
والآن نتذكر تلك الحقبة التي مضى عليها أربعين عاما، ونسترجع الصورة الجميلة لكبار السن في تلك الدكاكين وكيف كانوا قوى منتجة في الاقتصاد، فاعتمادهم على أنفسهم كان واسعا، وكان أغلبهم عادة يتخلي عن العمل و(التقاعد)، ثم تسليم المحلات التجارية إلى الأبناء.
طبعا لم يتم هذا التحول بين الأجيال نتيجة دخول عدة أسباب أربكت التطور الطبيعي في مجتمعنا. منها، أولا، توسع مجالات الإنفاق الحكومي ودخولنا في حقبة الاقتصاد الريعي مع اتجاه الحكومة للإنفاق الواسع على الأمور الحيوية الضرورية للناس وللدولة. والسبب الثاني الخطير وصاحب الأثر السلبي الممتد على الأسرة والمجتمع وهو: تمدد ساعات العمل في تجارة التجزئة. والثالث هو الإقبال الواسع على الاستقدام، والرابع كثرة الأبنية المرخصة للأنشطة التجارية داخل أحشاء الأحياء السكنية.
كل هذه أوجدت المغريات لانفجار تجارة التجزئة.. ولبداية استعذاب السهر، ووسعت البيئة التنافسية على المنشآت الصغيرة (دكاكين الشيبان). كما أن إقبال الأجيال الجديدة على التعليم والوظائف الحكومية أدى إلى ترك إدارة المحلات للعمالة. وهنا بدأت رحلة التستر العظيمة! وأول المتأثرين الخاسرين: أصحاب المحلات من كبار السن الذين تعودوا على إغلاق محلاتهم لصلاة المغرب ثم الاستعداد لمائدة العائلة الحميمية مع أم العيال والأحفاد.. والنوم مبكرًا. وهذه من أهم الأشياء التي خسرناها من زمن الطيبين!
لقد تحولت في الثلاثين عامًا الأخيرة معظم المنشآت الصغيرة والمتوسطة ومتناهية الصغر إلى التستر التجاري وهذا الأمر يصعّب بناء هذا القطاع. إن ظاهرة ساعات العمل الطويلة توازي في أثرها المدمر في التجارة الأثر المدمر للأحياء العشوائية في مدننا. وساعات العمل الممتدة، سوف تكون عائقا حقيقيًا أمام مكافحة التستر، وهذا ما تم اكتشافه ولمسه بوضوح قبل عشرين عامًا المسؤولون والعاملون في متابعة أوضاع العمالة غير النظامية.
لقد وجدوا أن الساعات الممتدة تساعد على تبديل أوقات العمل، وتحويل العمالة المخالفة والأنشطة غير النظامية إلى المساء حتى تكون بعيدة عن عيون الرقيب. المتابعة وتغطية هذه الفترات تتطلب إمكانات مالية وبشرية أخرى!
وهذا الذي نتمنى إدراكه من القيادات الحالية فساعات العمل لنشاط تجارة التجزئة هي البيئة الحاضنة الحقيقية للتستر التجاري ولغيره من الأمراض في الاقتصاد السعودي. وعدم معالجتها بجدية سوف يجعلنا (نطارد الحلم القديم!).
جميع دول العالم تغلق معظم النشاط التجاري عند السادسة مساء. عدم النظر في هذا الأمر هو الذي يجعلنا نخشى عدم فاعلية الإجراءات الحكومية المقبلة للسيطرة على التستر التجاري الذي أصبح حالة إدمان مزمنة!
ضروري استمرار التوعية للناس لكشف خطورة التستر التجاري على بلادهم، والأهم إيضاح حجم خسارتهم من نشاطهم. اتحاد الغرف السعودية والغرف التجارية لديهم جهود واسعة في هذا المجال، ويسندهم البرنامج الوطني لمكافحة التستر التجاري. أيضا لجان مكافحة التستر التجاري في الغرف، نتمنى تركيز جهودها على تحفيز أصحاب المنشآت لتصحيح أوضاعهم حتى لا تضيع أموالهم ويفقدوا عملاءهم وسوقهم.
عقوبات التستر التي أقرها النظام الجديد أيضا ضروري التوسع في نشرها وإبرازها حتى نحمي الجاهل من جهله. في السنوات الماضية تساهلنا في محاربة التستر، وربما تلام الأجهزة الحكومية التي لم تتابع وتطبق الأنظمة. النظام غلَّظ في العقوبات بشكل كبير، حيث (يصل السجن لمن ثبتت عليه تهمة التستر لخمس سنوات، بدلا عن سنتين، وغرامة مالية تصل خمسة ملايين ريال، بدلا عن مليوني ريال سابقاً، إضافة إلى عقوبات حل المنشأة وإلغاء الترخيص وشطب السجل، وتحويل أموال المنشأة إلى الخزينة العامة للدولة، ومنع المدان السعودي من ممارسة النشاط الاقتصادي محل الجريمة، وأي عمل تجاري آخر لمدة خمس سنوات، وإبعاد المدان غير السعودي من المملكة ومنعه من الدخول، بعد دفع ما لديه من التزامات مالية).
نحن في مرحلة الحزم والعزم على حماية مصالح الناس والدولة.