مشعل الحارثي
شرفني وأكرمني رئيس تحرير هذه الجريدة أستاذ الجيل وعلمنا الصحفي البارز الأستاذ خالد المالك بأن وضع مقالي يوم الأحد الماضي 30 يناير 2022م في صفحة الآراء الرئيسية بجوار كوكبة من كتاب الجريدة اللامعين وإلى جوار أخي وزميلي وابن مدينتي الطائف الصحفي والأديب الأستاذ حماد السالمي وكان من عجائب الصدف أن يكون محور مقالي والأخ حماد يتحدثان عن عروس المصايف الطائف وما تتكئ عليه من تاريخ ثقافي وتراثي عريق، ولعل أهم ما شدني في مقاله ما أشار إليه من موضوع المكتبات الخاصة للعلماء والأدباء والتي لا يكف الباحثون والمتخصصون من الحديث عنها لثراء ما تحتويه معظمها من علوم ومعارف ونوادر قد لا توجد حتى في المراكز البحثية الكبرى وما تركه أصحابها من آثار وشروحات وتعليقات على هوامشها وفي أطراف صفحاتها، وما خط من مؤلفات مطبوعة أو مسودات مخطوطة لم تطبع فأصبح يكتنف بعضها الغموض في مصيرها ومآلها واحتمال إهمالها أو ضياعها بعد رحيل أصحابها واعتبار الورثة أنها تشكل عبئاً ثقيلاً عليهم فنراهم يسارعون للتخلص منها بأي طريقة كانت حتى لو بيعها بسوق المتروكات المستعملة (الحراج).
والمكتبات الخاصة قديمة المنشأ وعني بها المسلمون من العلماء والخلفاء وسبق أن حدثتنا كتب التاريخ والتراث عن رحلات العلماء وما كانوا يلقونه من تعب ونصب للحصول على المعلومة لاستكمال مؤلفاتهم سواء من عالم في بلد آخر أو مرجع أو كتاب، وقد تمضي بهم الشهور والسنوات في رحلة البحث والتنقيب تلك التي كانت حصيلتها تكوين المكتبات الخاصة التي كان لها دورها البارز في حفظ تاريخ الحضارة الإسلامية وحفظ الكثير من كتب التراث الإسلامي من الضياع والاندثار.
ومقارنة بعصرنا الحاضر وبعد أن أولت حكومتنا الرشيدة عنايتها الكبيرة بنشر العلم والمعرفة ودعم الحركة الثقافية وانتشار المكتبات بكافة أنواعها حتى أصبح كل بيت لا يخلو من مكتبة خاصة مهما اختلف حجمها أو محتواها وهو مؤشر واضح على وعي المجتمع وتطلعاته الفكرية وأهمية وقيمة المعرفة الذاتية، وعليه فربما نجد أن بغية الباحث أو الدارس ومطلوبه قد تكون حبيسة رفوف إحدى المكتبات الخاصة في الحي الذي يسكنه أو ربما في دار جاره الذي لا يبعد عنه سوى بضعة أمتار بينما هو دائب البحث والسؤال عن مراده من مكان إلى آخر لغياب المعلومة وفقدان التواصل بين أصحاب هذه المكتبات وما يتملك بعضهم من خوف ورفض قاطع بأن لا يطلع أحد على مكتبته، بل إن أغلبهم يتبنون ما ذهب إليه الشاعر حينما قال:
ألا يا مستعير الكتب دعني
فإن إعارتي للكتب عار
ومحبوبي من الدنيا كتابي
وهل أبصرت محبوباً يعار
وقد سبق لي أن رصدت بعضاً من المكتبات الخاصة بالطائف من خلال كتابي (تاريخ الكتب والمكتبات بالطائف) الصادر عن نادي الطائف الأدبي عام 1432هـ واطلعت من خلال رحلة البحث والكتابة على نفائس وكنوز من الكتب النادرة والمخطوطات القديمة وهالني أن وجدت البعض قد حول فلته بالكامل لمكتبة خاصة تعج بالروائع والنفائس من الكتب والمراجع وانتقل للعيش في الملحق، بينما وجدت البعض يملك إلى جانب مكتبته الورقية مكتبة صوتية من أشرطة الكاسيت التي تتجاوز الآلاف من الأشرطة السمعية وكذلك المرئية.
كما سبق لي المشاركة في ندوة المكتبات الخاصة الواقع والمستقبل التي نظمها مركز تاريخ مكة المكرمة التابع لدارة الملك عبدالعزيز بالتعاون ورعاية وزارة التعليم العالي ممثلة في عمادة المكتبات بجامعة أم القرى خلال الفترة من 14 - 1 - 1435- 15 - 1 - 1435هـ بورقة عمل عن المكتبة الخاصة لقاضي الطائف الراحل الشيخ محمد الطيب رحمه الله والتي تمثل نموذجا مشرقا وحضاريا لتعامل أصحاب هذه المكتبات مع طالبي العلم والمعرفة، وبمحتوياتها التي تربو على (50) ألف كتاب حولها صاحبها إلى شبه مكتبة عامة تفتح أبوابها لقاصديها على فترتين صباحية ومسائية وخصص لها من يقوم على خدمة مرتاديها وتوفير كل سبل الراحة لهم من مقاعد مريحة وتهوية ومشروبات ساخنة وباردة، ولغزارة ما بها من أمهات الكتب والمراجع وبخاصة العلوم الشرعية كان لهذه المكتبة أثرها العلمي والثقافي في المستفيدين منها حيث استفاد منها أولاً وفي أوائل السبعينات الهجرية هيئة كبار العلماء وأعضاء المجلس الأعلى للقضاء وهيئات التمييز عند قدومهم في كل عام لقضاء فترة الصيف بالطائف والتي تمتد إلى بضعة شهور، وكان من رواد هذه المكتبة سماحة مفتي الديار السعودية الأسبق الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله وهو الذي استأذن صاحبها لتكون المرجع الأساس لكبار علماء المملكة أثناء وجودهم في صيف كل عام ولمساعدتهم في بحوثهم ولقائهم السنوي العام وذلك لعدم وجود مبنى ثابت لهم واضطرارهم للانتقال من مبنى لآخر صيف كل عام وقبل أن تنشئ الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء مكتبة علمية خاصة بهم بالطائف في السنوات المتأخرة، ثانياً استفاد منها ومن خلال مراجعتي لسجلات الزائرين عدد كبير من طلاب المدارس والمعلمين والباحثين والباحثات والدارسين والدارسات للمرحلة الجامعية والدراسات العليا (ماجستير ودكتوراه) من طلاب جامعات المملكة وجامعات دول مجلس التعاون الخليجي، ثالثاً انعكاسها على صاحبها واستعانته بها في أداء مهام عمله بالقضاء، إضافة لما ألفه وخطه من مجموعة من الكتب القيمة والمهمة كتاريخ الأوقاف في الطائف، وكتاب تاريخ إثيوبيا في مجلدين والعديد من الكتب الثقافية والأدبية الأخرى، وبعد رحيل صاحبها وإلى ما قبل جائحة كورونا كانت هذه المكتبة مشرعة أبوابها لقاصديها إلا أنها اليوم أصبحت مغلقة ولا نعلم شيئاً عن مصيرها حتى الآن.
وأقول وإضافة لما أشار إليه أخي حماد السالمي ومن واجب الحرص والمحافظة على المكتبات الخاصة من الضياع والاندثار حبذا لو يتبنى مركز تاريخ الطائف تنظيم ندوة خاصة في هذا الشأن لما يمثله موضوع المكتبات الخاصة من قلق بات يؤرق الكثيرين حتى أصحابها عندما يفكرون في مصيرها بعد رحيلهم وبعد أن أفنوا فيها زهرة شبابهم وأعمارهم وعانوا شديد المعاناة في جمعها وتكوينها وفي ظل ما يشهده العصر من قفزات تقنية رقمية متسارعة حملت لنا البيانات والمعلومات بأسرع وقت وبأدق التفاصيل وهو ما يستوجب مواكبة تحديات المرحلة والتناغم مع متطلبات الحاضر والمستقبل وبما يسمح بتداول سهل وميسر للمعلومة بكافة أشكالها وتحديداً في المكتبات الخاصة وإخراج ما بها من كنوز وذخائر ووضع الآلية التي تحقق تفاعلها الحيوي وتقديم محتوياتها للباحثين والمستفيدين منها، وحبذا أيضاً قيام دارة الملك عبدالعزيز بالعمل على تفعيل ما جاء بندوة المكتبات الخاصة التي أشرت إليها سابقاً ووثقت وقائعها في كتابها المرجعي ولما تسهم به في خلق واقع أكثر ازدهاراً ويعزز نشر الثقافة والمعرفة.