د.فوزية أبو خالد
أستهل مقالي هذا بدعاء للطفل ريان بأن يبدل الله تجربة الرعب التي عبر بها في طفولته الراكضة أمنًا وسلامًا دائمًا بعتقه حرًا طليقًا في دار الخلود، كما أستهله بعزاء حار أقدمه من أعماق قلبي وقلب المملكة العربية السعودية لأم ريان السيدة الصابرة المحتسبة التي ظلت رابطة الجأش في ذروة رعبها وابنها وحيد مخطر بعيد عنها وإن كان على قرب أمتار منها في غياهب بئر ضيق سحيق، ووقوفها بنفس التماسك المؤمن الشجاع وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة ويسلّم أمانة روحه البريئة إلى بارئه، والعزاء موصول لوالده وأسرته ولقرية شفشان وللمغرب العربي والعالم بأسره ولنا جميعا ممن قدر الله لنا في شتى بقاع الأرض المعمورة أن نكون شهودًا حضورًا على التعالق بين الموت والحياة في أسطورة حياة ريان القصيرة.
* * *
2
والواقع أنني قد ترددتُ كثيرًا في الكتابة عن الموضوع لطراوة الجرح ولحساسيته الوجدانية البالغة لي ناهيك عن الأطراف المعنية القريبة جبرهم الله، إلا أنني قررتُ التجبر على قلمي وجوارحي لكل المعاني السامية ولكل التواشج العمراني العالمي ولكل الشجن الشعري وكل الطاقة التأملية العميقة التي فجرها ذلك الموقف الجلل (موقف إنقاذ حياة طفل من خطر داهم بالموت). فذلك الموقف الموجع لطفل يقبع في ظلام دامس وحيدًا أعزل راعفًا دمه على وجهه خافقاً قلبه بأسئلة باكية وشهيق مكتوم أمام بغتة المجهول وتلك المحاولات المضنية وخياراتها الضيقة لإنقاذ حياة الطفل وتلك المتابعة العالمية الواجفة والأكف الضارعة والصلوات المتواصلة لكشف الغمة عن ريان، كشف عمّا يرجح ميزان الخير على كفة الشر على هذه الأرض، كما كشف عن مشترك العواطف النبيلة بين البشر، بما خلقه الحرص على حياة ذلك الطفل الصغير من إحساس مرهف بوحدة الفكر والشعور الإنساني خارج سطوة الخارطة السياسية المعقدة لعلاقات القوى والإيدولوجيا والتحيزات وتضاد المصالح وما إليه من مسببات ومسوغات ومبررات الانقسام والتصدع والصراعات اليومية في العالم. هذا إلى جانب تلك الوقفة العربية الإسلامية التعاضدية الابتهالية الموحدة عبر العالم الافتراضي التي لم تجربها الأجيال اللاحقة، بل ربما لم تسمع بها قبل الالتفاف حول الأمل بنجاة ريان إلا من روايات المخضرمين...
* * *
3
فمقابل ما يعيشه العالم من أخطار سياسية وعسكرية ومرورية وصحية وإلكترونية وبيئية وخاصة في ظل الحروب وبؤر القتل والاقتتال تهدد حياة الأطفال يوميًا، بل وتودي بحياتهم بشكل مجاني يبث حياً على الهواء بما يكاد يصبح مشهداً معتاداً يمر به العالم في متابعاته لنشرات الأخبار صباحًا مساء دون أن يتوقف أو يطرف له جفن بتلك الحجج الواهية من العمى السياسي التي تجعل مصير الأطفال الحياتي مجرد تفاصيل صغيرة في صراعات وحروب كبيرة خارج اختصاص وقدرة المواطن العادي أينما كان، لفهمها أو الاعتراض عليها باعتبارها شأناً سياسياً صرفاً، وجدنا التفافًا واهتمامًا عربيًا وإسلاميًا وعالميًا على مستوى المواطن العادي بإنقاذ حياة الطفل ريان. فصارت حياة طفل صغير ببراءتها من تشابكات أي من الخيوط السياسية المعتادة وببعدها عن أي حمولات أيدولوجية متضادة هي ماء زمزم وهي «ماء المعمدان» وهي أكسير الحياة وهي كل المياه المقدسة في مختلف المرجعيات الثقافية، القادرة على شفائنا من الأمراض والأثقال التي تعيق الإنسان عن أن يكون إنساناً بمعنى الكلمة الذي يكون فيه إحياء نفس واحدة إحياء للناس جميعاً ونصرة لإرادة الحياة على مصائر الموت. ولعل من أعمق الكلمات التي قرأت موقف الرجاء الجمعي بإنقاذ حياة الطفل ريان ما كتب في قول قرأته بتوتر منقولاً «ثم جاء الطفل ريان ليعلمنا دون أن يعلم أو نعلم.. معنى... معنى أن النفس عظيمة وقيمة الروح الواحدة كبيرة عند الله وكأن الأمر ليوقظنا في كل بلاد المسلمين (وأضيف وسائر بلدان العالم) ألا نفرط في طفل واحد ولو تطلب الأمر حفر الأرضين السبع لننقذ إنساناً واحداً».
* * *
4
لقد عاش العالم بأسره وعاش العالم العربي والإسلامي والوطن المغربي بطوله وعرضه وعاش كل منا لمدة خمسة أيام لحظة تاريخية نادرة متجاوزة الجغرافيا والعرق واللون واللغة والإثنيات والتفرعات والقوالب من التضامن البشري واجتماع الكلمة على أمنية شفيفة واحدة هي (إنقاذ حياة الطفل ريان) وتضرع موحّد وإن اختلفت لغاته وسمواته بخروج الطفل ريان حياً يرزق معافى من وهدة ووحشة وخطر البئر..
لقد عشنا في تلك التجربة الموجعة لحظة من التراجيديا الملحمية البشرية الحيَّة التي لا يعيشها عادة إلا القليل خارج الكتب بما لخصته تلك الصور التي خرج فيها العالم من تمزقاته (بهشتاق إنقاذ ريان على منصة تويتر وسواه من وسائل السوشل ميديا) فنزلت كل الأطياف بقلب واحد إلى تلك الحفرة الموحشة لإعادة أنسنة أنفسنا واستعادة بعض من إنسانيتنا الضائعة في اللهاث المعيشي وفي التشرذمات اللا عقلانية.
* * *
5
لقد عشنا لحظة عامة من يقظة الضمير بوحدتنا الإنسانية ولحظة تجديد الثقة في أن الإرادة أولاً وأخيرًا لله وإن الإنسان مهما بلغ من القوة وادّعائها لا يستغني عن رحمة الله.
عشنا خمسة أيام عمرها أعوام متقلبين بين جبال الوقت وريشة الأمل في لحظة بحث جماعي وفردي عن ملاذ إيماني يهدئ روع الإنسان ويعينه على التفكير والعمل في أحلك وأقسى الظروف كموقف فريق العمل لإنقاذ حياة ريان في ذلك التحدي الجارح بين الرجاء واليأس وفي السباق بين الموت والحياة ، وإذا كانت روح ريان قد عادت لخالقها فإن درس ريان الذي يجب ألا ينسى كما لن ينسى ريان هو أن نعيش تأمل الموقف بإخلاص وأن نعيد طرح الأسئلة في الطفولة وفي الحروب وفي الأخطار اليومية والبعيدة المحيقة بنا وبالأطفال وفي الفجوة المعرفية العلمية والتطبيقية بيننا وبين العالم والفجوة المعيشية والبيئية بين المراكز والقرى وفي قيمة الحياة وأهمية أن نحيا حياة آمنة كريمة ما وسعتنا الحياة.
{إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}.
وإليه يرجع الأمر من قبل ومن بعد.