إنَّ الفتن تُعرض على القلوب، والسالم من سلمه الله، والناجي من نجَّاه الله منها، ومن توفيق الله لعبده عند الفتن أن يثبته على الدين، فلا يقع في أوحال الفتن ولا ينزلق في حُفرها، ويخالف هواه إن دعاه إلى شيءٍ منها، قال تعالى: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ [إبراهيم: 27] قال السعدي رحمه الله: «يخبر تعالى أنَّه يثبت عباده المؤمنين، أي: الذين قاموا بما عليهم من إيمان القلب التام، الذي يستلزم أعمال الجوارح ويثمرها، فيثبتهم الله في الحياة الدنيا عند ورود الشبهات بالهداية إلى اليقين، وعند عروض الشهوات بالإرادة الجازمة على تقديم ما يحبه الله على هوى النفس ومراداتها، وفي الآخرة عند الموت بالثبات على الدين الإسلامي والخاتمة الحسنة، وفي القبر عند سؤال الملكين، للجواب الصحيح، إذا قيل للميت «من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟» هداهم للجواب الصحيح بأن يقول المؤمن: «الله ربي والإسلام ديني ومحمد نبيي». (تفسير السعدي/ ص: 425).
ومن أسباب الثبات على الدين في زمن الفتن:
أولاً: العلم النافع الذي يميِّز به بين الحلال والحرام والمتشابه، فيسير في حياته مستنيراً بنور العلم الذي تعلَّمه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الْحَلَالَ بَيِّنٌ، وَإِنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ، كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى، يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ، أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلَا وَإِنَّ حِمَى اللهِ مَحَارِمُهُ». رواه البخاري (52) ومسلم (1599).
ثانياً: الاستقامة على الدين، ولزوم الكتاب والسنة على فهم سلف الأمة من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم، ومحاسبة النفس قبل أن يحاسب يوم الحساب، فالدنيا دار عمل، والآخرة دار جزاء ولا عمل، وإنَّ المصير في الآخرة إمَّا إلى جنة وإمَّا إلى نار عياذاً بالله من النار، فمن عمل صالحاً في دنياه فالله تعالى يحييه حياة طيبة، قال تعالى: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النحل: 97].
ثالثاً: لزوم جماعة المسلمين وإمامهم، وعدم التحزب فرقاً وجماعات، قال الله تعالى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا [آل عمران: 103] وقال تعالى: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام: 153]. قال حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: «كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله، إنا كنا في الجاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: (نعم). قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: (نعم، وفيه دخن). قلت وما دخنه؟ قال: (قوم يهدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر). قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: (نعم، دعاة إلى أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها). قلت: يا رسول الله، صفهم لنا؟ فقال: (هم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا). قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم، قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: (فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض بأصل شجرة، حتى يدركك الموت وأنت على ذلك)» رواه البخاري (3411) ومسلم (1847).
رابعاً: البعد عن مواطن الفتن، فلا يعرِّض نفسه لها، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ستكون فتن، القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، ومن يشرف لها تستشرفه..». رواه البخاري (3406) ومسلم (2886).
قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن السعيد لمن جُنِّب الفتن، إن السعيد لمن جُنِّب الفتن، إن السعيد لمن جُنِّب الفتن..» رواه أبو داود بسند صحيح (4263). قال الإمام ابن تيمية رحمه الله: «إذا تعرَّض العبد بنفسه إلى البلاء وكله الله إلى نفسه». (مجموع الفتاوى (10/ 577) وقال الشيخ ابن باز رحمه الله: «طريق السلامة والنجاة أن يتباعد المؤمن عن أسباب الفتن وأن يحذرها غاية الحذر». (مجموع فتاوى ومقالات متنوعة لابن باز 3/ 147).
خامساً: الدعاء: فيتعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن، ويسأل الله أن يهديه الصراط المستقيم، وأن يثبت قلبه على الدين، ويسأل الله العافية في دينه ودنياه، والمحافظة على الأذكار عموماً ومنها أذكار الصباح والمساء، ويتعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن، عَنْ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «يَأْتِي عَلَيْكُمْ زَمَانٌ لَا يَنْجُو فِيهِ إِلَّا مَنْ دَعَا دُعَاءَ الْغَرَقِ». رواه الحاكم بسند صحيح (8308). وكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ: «يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قُلُوبَنَا عَلَى دِينِكَ». رواه الحاكم بسند صحيح (3140). ومن الدعاء أن يدعو بما ورد في القرآن الكريم: رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ [آل عمران: 8] قال ابن كثير رحمه الله: «أَيْ: لَا تُمِلْهَا عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ أَقَمْتَهَا عَلَيْهِ وَلَا تَجْعَلْنَا كَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ، الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنَ الْقُرْآنِ وَلَكِنْ ثَبِّتْنَا عَلَى صِرَاطِكَ الْمُسْتَقِيمِ، وَدِينِكَ الْقَوِيمِ وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ أَيْ: مِنْ عِنْدِكَ رَحْمَةً تُثَبِّتُ بِهَا قُلُوبَنَا، وَتَجْمَعُ بِهَا شَمْلَنَا، وَتَزِيدُنَا بِهَا إِيمَانًا وَإِيقَانًا». (تفسير ابن كثير ت سلامة 2/ 13).
سادساً: ذكر الله كثيراً، والمداومة على تلاوة القرآن الكريم بتدبر، وتدبر ما فيه من قصص وأحكام، قال تعالى: وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ [هود: 120] قال ابن رجب رحمه الله: «إنَّ في سماع أخبارِ الأخيارِ مقويًّا للعزائم ومُعينًا على اتِّباع تلك الآثارِ». (تفسير ابن رجب الحنبلي (1/ 572) وقال تعالى: قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ [النحل: 102].
سابعاً: الصبر والصلاة، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة: 153] قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره: «الصَّلَاةَ مِنْ أَكْبَرِ الْعَوْنِ عَلَى الثَّبَاتِ فِي الْأَمْرِ، كما قال تعالى: اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت: 45]». وقال رحمه الله: «بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ أَجْوَدَ مَا يُسْتَعَانُ بِهِ عَلَى تَحَمُّلِ الْمَصَائِبِ الصَّبْرُ وَالصَّلَاةُ». وقال ابن عباس رضي الله عنهما: «في الصلاة منتهى ومزدجر عن معاصي الله». وقال السعدي رحمه الله: «وجه كون الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر أنَّ العبد المقيم لها، المتمم لأركانها وشروطها وخشوعها، يستنير قلبه، ويتطهر فؤاده، ويزداد إيمانه، وتقوى رغبته في الخير، وتقل أو تعدم رغبته في الشر، فبالضرورة مداومتها والمحافظة عليها على هذا الوجه تنهى عن الفحشاء والمنكر، فهذا من أعظم مقاصدها وثمراتها». (تفسير السعدي ص632).
ثامناً: مصاحبة الصالحين، فإنَّهم يتناصحون، ويعين بعضهم على طاعة الله، ويتواصون بالحق وبالصبر، ويتعاونون على البر والتقوى، والبعد عن مصاحبة أهل السوء الذين يأمرون بالمعصية، ويعين بعضهم على الإثم والعدوان، ويتكاسلون عمَّا أوجب الله عليهم من الطاعات، قال الله تعالى: الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ [الزخرف: 67] عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «كلّ خُلَّةٍ هي عداوة إلا خلة المتقين». (تفسير الطبري = جامع البيان ط دار التربية والتراث 21/ 638). وقال ابن كثير رحمه الله: «كل صداقة وصحابة لغير الله فإنَّها تنقلب يوم القيامة عداوة إلا ما كان لله عز وجل، فإنَّه دائم بدوامه». (تفسير ابن كثير - ت السلامة 7/ 237). قال في لطائف المعارف لابن رجب (ص77) وممَّا يروى لعلي رضي الله عنه:
فلا تصحب أخا الجهل... وإيَّاك وإيَّاه
فكم من جاهلٍ أردى... حكيماً حين آخاه
يُقاس المرء بالمرء... إذا ما المرء ماشاه
وللشيء على الشيء... مقاييسٌ وأشباه
وللقلب على القلب... دليلٌ حين يلقاه
أسأل الله تعالى أن يثبِّت قلوبنا على دينه.