رؤية - خالد الدوس:
تمثل القيم ركناً أساسياً في تكوين العلاقات الاجتماعية, وتأصيل الروابط الإنسانية داخل البناء الأسري، الذي يعد حجر الزاوية للبناء المجتمعي, إذ إن القيمة هي التي تنتج السلوك الاجتماعي, وهذا السلوك هو الذي يؤدي -ميكانيكياً- إلى تكوين شبكة العلاقات البشرية التي بدورها تؤثر مرة أخرى على تكوين قيم أخرى وتطورها, وهناك بعض علماء الاجتماع من اعتبر القيم ظاهرة اجتماعية كغيرها من الظواهر الأخرى وأنها شيء له معنى خاص بالنسبة للجماعة التي تسعى للوصول إليها فتستهدفها في سلوكها، كما أنها تعتبر إحدى موجهات الفعل الاجتماعي.
الموجهات القيمية
في هذا السياق يذهب عالم الاجتماع الشهير (ماكس فيبر) إلى أن القيم هي «عبارة عن الموجهات التي تفرض نمط السلوك, وشكله, وتتضمن هذه القيم بعض الأوامر التي تحكم السلوك الإنساني بطريقة ضاغطة, أو قد تصنع هذه القيم بعض المطالب التي قد يضطر الإنسان إلى السعي لها. وهذا ما ذهب إليه رائد علم الاجتماع الحديث الأمريكي (تالكوت بارسونز) في كتاباته عند تحليله البنائي الوظيفي للنسق الاجتماعي حيث يرى أن القيم هي: تلك الجوانب من موجهات الفاعل التي تلزمه بالمحافظة على معايير معينة, ومعايير الاختيار, وحينما يكون الفاعل مجبراً على الاختيار, فإن الموجهات القيمة قد تلزمه بمعايير معينة تساعده على اختياراته. ولذلك فإن القيم تعد محدداً مهماً من محددات السلوك الإنساني، وبالتالي يمكن من خلالها الحكم على من حولنا من المكونات الثقافية والسلوك, كما أنها تفصح عن نفسها في أنماط التفضيل والاختيار بين البدائل المتاحة.
القيم والالتزامات الأخلاقية
يشير بعض علماء الاجتماع في مفهوم القيم: إنها الاهتمامات والتفضيلات المرغوب فيها، والواجبات والالتزامات الأخلاقية والحاجات.
والقيم هنا ليست خاصة في الشيء ذاته، بل هي علاقة بهدف، أو بعرض ما في الحياة الإنسانية وهي تمثل منتجات اجتماعية داخل شبكة العلاقات الإنسانية والأسرية, والمجتمع يلعب دوراً مهماً في تشكيل رغبات واهتمامات وميول الفرد عن طريق أساليب التنشئة الاجتماعية والأسرية، والاتصال الجماعي.
ولذلك يرى علم الاجتماع أن للقيم الاجتماعية أهمية كبيرة بالنسبة للأفراد, حيث تعمل على ترابط المجتمع وتماسكه وتوحيده وتنظيمه, بحيث تشكل ركناً أساسياً في تكوين العلاقات الإنسانية والاجتماعية داخل البيئات الاجتماعية المختلفة, بالإضافة إلى دورها الكبير في عملية التفاعل الاجتماعي والاختلاط بين الأفراد في المجتمع الواحد، وبين الجماعة والجماعات الأخرى, كون القيم الاجتماعية نماذج يفضلها الأفراد ويرغبونها باعتبارها من صلب ثقافتهم وموجهة لسلوكهم, فضلاً عن تأثيرها الواضح في عقول الأفراد خلال التنشئة الاجتماعية سواء في الأسرة، أو المؤسسات التعليمية, وبذلك تؤدي وظيفتها في ضبط سلوك أفراد المجتمع، وبالتالي تصبح دعامة قوية ورافداً صلباً للنظام الاجتماعي والأسري.
مهددات الأسرة المعاصرة
لا شك أن الأسرة تعد أهم مؤسسة تربوية يتلقى فيها الفرد قيم الأخلاق ومبادئ السلوك السوي, لأن الأسرة تكون أكثر حرصاً على توجيه أبنائها, وحثهم على الأخذ بقيم الفضيلة واكتسابهم المعايير والأخلاقيات السليمة, وتنمية الإحساس بالكرامة الإنسانية, فالأسرة كلما كانت متماسكة ومترابطة، كانت أقدر على حماية أبنائها من الوقوع في مزالق الانحراف وبراثن الجريمة, والعكس, وهناك العديد من الدراسات الاجتماعية أكدت وجود علاقة بين اضطراب الأسرة وتوترها, وانحراف أفرادها عن مسار التربية السليمة.
فإذا كانت الأسرة تشكو من حالات الوهن والعجز والفاقة والتفكك, فإنها لا تستطيع القيام بواجباتها التربوية والأخلاقية والاجتماعية, وهنا تظهر المشكلات الاجتماعية بشكلها المخيف والمقلق، التي لا تهدد كيان ومصير الأسرة أو العائلة فحسب، بل كيان ومصير المجتمع الكبير أيضاً!! إذا اتسعت دائرتها المظلمة, وزادت معدلاتها بنسب مخيفة, وأرقام مزعجة!!
ومن أخطر المشكلات والمهددات التي تتعرض لها الأسرة المعاصرة آفة العنف والتفكك والتحلل الاجتماعي والخلقي التي تكون على أنماط مختلفة, وأهمها تفكك الأسرة الناجم عن تصدع العلاقات الزوجية في الأسرة وبعثرتها نتيجة للطلاق, أو الافتراق, أو الهجر، وقبل ذلك الطلاق العاطفي أو الخرس العاطفي الذي يعد من القضايا المعاصرة عند بعض الأسر في خضم التغيرات الاجتماعية وتحدياتها الثقافية.
فالأسرة قد تتخلخل وتندثر بسبب طلاق الزوج لزوجته وتعهد أحد الزوجين برعاية الأطفال إذا كان أو كانت مؤهلة وقادرة على القيام بذلك، وفي حال عدم وجود مثل هذا الدور فإن الأطفال يتعرضون إلى الانحراف والجنوح والوقوع في براثن الجريمة, والطلاق هو وجه من أوجه تفكك الأسرة الذي يهدد استقرار أي كيان أسري, وبالتالي قد يدفع الأطفال نحو الانحراف وارتكاب الأعمال الإجرامية إذا افتقدوا إلى أساليب التنشئة الصحية ورعايتهم الرعاية السليمة, والإشراف على سلوكهم وأخلاقهم وقيمهم.
النزعات الداخلية ورفاق السوء!
معروف أن الطفل عندما يفتح عينيه في بيت تسود فيه الخصومة والشجار والعنف المنزلي بين الوالدين فمن المتوقع أن يترك البيت القائم, ويهرب من محيط الأسرة الموبوءة بالصراع ليبحث عن (رفاق السوء), مما يمهد له سبل الانحراف والوقوع في براثن الجريمة.!
ولا شك أن حُب الأبوين شرط من شروط شعور الطفل, أو النشء بالأمن, وهو ليس بأقل أهمية من وجود الوفاق بينهما, وإن أسباب تمزق حياة الطفل الداخلية وانحرافه وجود النزاع الظاهر بين الأبوين, أو حتى النزاعات الداخلية التي يظن الأبوين إنها خافية على الأطفال تسبب لهم اضطراباً عنيفاً وخللاً سلوكياً, كما أن الكثير من الأطفال الجانحين هم نتاج الأسرة المفككة التي يسودها الخلق الساقط, وتنعدم فيها القيم الروحية والمُثل العليا, ومثل هذه الأسرة تكون مجردة من معاني الشرف والفضيلة, أو السلوك الطيب, وتصبح بالتالي الجريمة والاعوجاج وسوء الخلق أمراً عادياً لا يرى فيه أفراد الأسرة غضاضة ولا يحسون فيها بمعنى الخطيئة.
إن وجود الطفل في بيئة أسرية غير ملائمة ربما يكون من الأسباب ذات العلاقة الوطيدة في إيجاد البيئة الملائمة للانحراف السلوكي, وهناك عوامل أخرى تساعد على الانحراف والجنوح, مثل مدى استجابة الطفل لتلك الظروف والتكيف مع معطياتها..
بمعنى أن العلاقات الأسرية تلعب دوراً مهماً وحراكاً بنيوياً في قضية انحراف الأبناء وجنوحهم، فلقد أكدت العديد من الدراسات أن التفكك الأسري يمثل سبباً قوياً ومباشراً للانحراف السلوكي، والأسرة المنهارة تعد أحد أسباب تعاطي المخدرات والجريمة ذلك أن انهيار الأسرة (وظيفياً وبنائياً) يؤدي إلى عدم قدرتها على القيام بوظيفتها الاجتماعية، وعدم ممارستها لدورها كإحدى وسائل الضبط الاجتماعي في المجتمع وأهم مؤسسات التنشئة الاجتماعية والنفسية والدينية والتربوية والسلوكية.
التفاعل الإيجابي
تقل مظاهر الجريمة بشكل عام، عند الأسر التي تتميز علاقاتها بالتفاعل الإيجابي المتبادل بين أفرادها, ويسودها الوفاق والتضامن والعلاقات السوية بين الأبوين، وبين الأبوين والأبناء، والتواصل الحضاري والحوار الجيد بين أفراد الأسرة يساعد في استقرار الأسرة, وضمان سلامة البناء المنزلي (وظيفياً), ولذلك كلما تضاءلت فرصة اكتساب قيم السلوك السوي داخل الأسرة لجأ الحدث, أو المراهق إلى جماعة الأصدقاء (كجماعات مرجعية) تكتسب من خلالها قيم ومعايير سلوكية ربما لا تكون سوية بالضرورة، خاصة عندما تكون جماعة الرفاق غير سوية قد تدفعهم لارتكاب الجرائم والأفعال الجانحة.. كالسرقات وتعاطي المخدرات، والقتل ومحاولات القتل, والتأثر بالأفكار المتطرفة والآراء المنحرفة وغيرها من الأنماط السلوكية الإجرامية التي يرتكبها الأحداث الجانحون لأسباب مختلفة، ومنها الاختلاف والانصهار والتفاعل مع رفاق السوء خصوصاً رفاق الحي السكني ورفاق المدرسة من المنحرفين أو الأشرار.
فالأسرة المتمثلة في الأبوين هي المسؤولة عن بث روح المسؤولية, واحترام القيم وتعويد الأبناء على احترام الأنظمة الاجتماعية ومعايير السلوك السوي, فضلاً عن المحافظة على حقوق الآخرين, واستمرارية التواصل, ونبذ السلوكيات الخاطئة لدى الأبناء مثل التعصب الذي يعد اتجاهاً نفسياً جامداً ومشحوناً وانفعالياً، وكذلك ظواهر أخرى تعد محرمة دينياً وقيمياً وتربوياً.
تنمية الأسرة.. أساس لنجاح رؤية 2030
من الواجب على الآباء والأمهات التعامل مع أسس (القيم المرغوبة) على أنها سلوكيات صحيحة، والتعامل معها بثبات لترسيخ قواعد هذا النظام, وهذا -لا مناص- يتطلب من الأبوين اللذين يتعاملان مع النشء أن يكونا قدوة صالحة، وأسوة حسنة في هذا الجانب، فعلاقة الوالدين أحدهما بالآخر لها أهمية كبرى في نسق اكتساب القيم من خلال التربية السليمة وتوافقهما يحقق للأبناء تربية اجتماعية نفسية سليمة خالية من رواسب العُقد والمشكلات التي لا تعدو واضحة للعيان آنياً، وإنما تظهر نتائجها بشكل واضح مستقبلاً..!
أما القيم التي تعلّمها الأسرة لأبنائها فهي عبارة عن مفاهيم تختص باتجاهات وغايات تسعى إليها بالرغبة، وتعد القيم بمثابة المعيار المثالي لسلوك الفرد، ذلك المعيار الذي يوجه تصرفات الفرد وأحكامه وميوله ورغباته واهتماماته المختلفة, والذي على ضوئه يرجح أحد بدائل السلوك، وإن الفعل, أو السلوك الذي يصدر عنه وسيلة يحقق بها توجهاته القيمية في الحياة الاجتماعية.
وأخيراً لا بد أن نشدد على أن تنمية الأسرة تمثل ركيزة أساسية لنجاح رؤية مملكتنا الطموحة (2030) بقيادة عرّابها ومهندسها سمو ولي العهد الأمين الأمير محمد بن سلمان -حفظه الله - وإن كانت الأسرة السعودية متماسكة -بحمد الله- في أمورها بصفة عامة، إلا أن هذا لا يعني أنها لا تعاني من مشكلات ومثالب ومهددات وهموم خاصة في ظل التغيرات الاجتماعية والقيمية والتحولات الثقافية السريعة التي يشهدها عالمنا اليوم. فهي تعد من أهم مؤسسات التنشئة الاجتماعية في اكتساب الأبناء لقيمهم التي تحدد لهم ما ينبغي أن يكون في ظل المعايير السائدة، ومن القيم التي تكسبها الأسرة لأبنائها السلوكيات الاجتماعية المتعلقة بالأخلاق والدين والتعامل مع الآخرين وآداب المجالسة, وقيم الوفاء والنبل والإخلاص وغيرها من قواعد الآداب الاجتماعية والمعايير التربوية التي تكفل حماية سلوكيات الأبناء من الانحراف, ومن الآراء المتطرفة، وتأصيل العقيدة الإيمانية بالطرق التربوية السليمة ذات (المنهج الوسطي) التي تقوم على العقل والعلم والحكمة والبصيرة حتى يكون الإيمان هو مصدر السلوك السّوي وموجه الإنسان في الحياة الاجتماعية بوجه عام.
** **
- باحث متخصص