إن الإنسان جسم وروح، وهو قلب وعقل وعواطف وجوارح، لا يسعد ولا يفلح ولا يرقى رقياً متزناً عادلاً حتى تنمو فيه هذه القوى كلها نمواً متناسباً لائقاً بها، ويتغذى غذاء صالحاً، ولا يمكن أن توجد المدنية الصالحة البتة إلا إذا ساد وسط ديني خلقي عقلي جسدي يمكن فيه الإنسان بسهولة أن يبلغ كماله الإنساني.
وكان ظهور المدنية الإسلامية بروحها ومظاهرها وقيام الدولة الإسلامية بشكلها ونظامها فصلاً جديداً في تاريخ الأديان والأخلاق، وظاهرة جديدة في عالم السياسة والاجتماع، انقلب به تيار المدنية، واتجهت به الدنيا اتجاهاً جديداً، فغير اتجاهها من الشر إلى الخير ومن الفساد إلى الإصلاح، وتقتلع جرثومة الفساد من النفس البشرية التي قد تنبت بفساد المجتمع واختلال التربية كما تنبت الحشائش الشيطانية في أرض كريمة، وتحسم مادة الشر ويغرس فيها حب الخير والفضيلة.
صارت طبائع الناس وعقولهم تتغير وتتأثر بالإسلام من حيث يشعرون ومن حيث لا يشعرون، كما تتأثر طبيعة الإنسان والنبات في فصل الربيع، وبدأت القلوب العاصية الجافة ترق وتخشع، وبدأت مبادئ الإسلام وحقائقه تتسرب إلى أعماق النفوس وتتغلغل في الأحشاء، وأصبحت الجاهلية حركة رجعية كأني من الجمود والغباوة والمحافظة عليها، وصار الإسلام شيئاً راقياً عصرياً، كان من الظرف والكياسة الانتساب إليه والظهور بمظاهره، وكانت الأمم بل كانت الأرض تدنو رويداً رويداً إلى الإسلام.
وأصبح الناس لا يجدون عائقاً عن الإسلام، ولا يواجهون صعوبة وعنتاً في سبيل قبول الإسلام، ولا يرون للجاهلية مرجحاً ومصلحة، ويدخل الرجل في الإسلام فلا يخسر شيئاً ولا يفقد شيئاً، ويجد برد اليقين وحلاوة الإيمان، وبهذا الإيمان الواسع العميق والتعليم النبوي المتين، وبهذه التربية الحكيمة الدقيقة وبشخصيته الفذة، وبفضل هذا الكتاب السماوي المعجز الذي لا تنقضي عجائبه ولا تخلق جدته، بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإنسانية حياة جديدة.
أصاب الجاهلية في مقتلها وصميمها، فأصاب رميته، وأرغم العالم العنيد بحول الله على أن ينحو نحواً جديداً ويفتح عهداً سعيداً، ذلك هو العهد الإسلامي الذي لا يزال غرة في جبين التاريخ، حيث أصبح الإسلام مدرسة ما تعلم التاريخ، بل تلد التاريخ، وما تشرح الفكرة، بل تضع الفكرة، وما تنجب الآثار، بل تنتج الآثار، الإسلام مدرسة داخلية فطرية تولد مع الإنسان، ويحملها الإنسان معه في كل مكان، هي مدرسة القلب والوجدان، هي مدرسة توجد في كل زمان، هي مدرسة تشرف عليها التربية الربانية وتمدها القوة الروحية.
واليوم لا يمكن للعالم الإسلامي النهوض إلا بالرسالة التي وكلها إليه مؤسسه رسول الله صلى الله عليه وسلم، والإيمان بها والاستماتة في سبيلها، وهي رسالة قوية واضحة، لم يعرف العالم رسالة أعدل منها ولا أفضل ولا أيمن منها، وهي نفس الرسالة التي حملها المسلمون الأولون، وهي رسالة لا تحتاج إلى تغيير كلمة وزيادة حرف، فهي منطبقة تماماً لانكباب على العصر الحاضر كما انطباقها على القرن السادي المسيحي، كأن الزمان قد استدار كهيئته يوم خرج المسلمون من جزيرتهم لإنقاذ العالم من براثن الجاهلية.
** **
merajjnu@gmail.com