محمد سليمان العنقري
تداعيات جائحة كورونا الاقتصادية مازالت مستمرة بأوجه عديدة رغم حجم الحلول الضخم الذي قدم منذ بدايتها قبل عامين تقريباً وبتكلفة باهظة حيث تم ضخ ما يقارب 30 تريليون دولار أميركي من جل دول العالم لاستيعاب التداعيات الخطيرة التي تولدت منذ أن بدأ الإقفال الكبير عالمياً ورغم تجاوز مرحلة الركود الاقتصادي والتحول لنمو جامح بالعام الماضي إلا أن التضخم الذي رافق هذا النمو كان فوق قدرة الدول في الاقتصادات الكبرى تحديداً على كبحه بل في أميركا كان البنك الفيدرالي الأميركي ينظر للتضخم على أنه عابر إلا أنه غير رأيه قبل حوالي ثلاثة شهور ليقول إنه طويل الأمد وليس مؤقتاً مما أدى لتغيير في سياسته النقدية ليبدأ بتسريع سحب التيسير الكمي حيث سيتم التوقف لهذا البرنامج في شهر مارس القادم بعد أن كانت التوقعات سابقاً أن يتوقف في منتصف العام الحالي بالإضافة لتغيير في توجهاته لرفع أسعار الفائدة فسابقاً كان الفيدرالي يعطي تلميحات أن بداية رفعها في العام 2023 إلا أن الموعد الجديد بات أقرب من ذلك بكثير وقد تكون البداية في شهر مارس القادم بعدد ثلاث إلى أربع مرات لهذا العام بينما قام البنك المركزي البريطاني برفع أسعار الفائدة لمرتين خلال ثلاثة شهور لمواجهة التضخم الذي وصل لمستويات غير مسبوقة منذ عقود في الاقتصاد البريطاني.
لكن هل ستستطيع هذه الاقتصادات الكبرى لجم التضخم وفق سياسات تقليدية أهمها رفع أسعار الفائدة وإيقاف برامج التيسير الكمي أو استخدام أي أدوات تخفض حجم السيولة بالأسواق دون تأثير على خطط النمو لديها؟ منطقياً تعد هذه الخطوات مع تشديد السياسة المالية هي أهم الأدوات لكن لا تبدو كافية عملياً فهناك أسباب متعددة لهذا التضخم الجامح فأميركا لم تشاهد هذا المستوى منذ قرابة 38 عاماً حيث تجاوز 7 بالمائة فرغم محاولات واشنطن في الشهور الماضية تعليق شماعة ارتفاع أسعار المستهلكين على ارتفاع أسعار النفط التي تجاوزت في حينها حاجز 80 دولاراً وتحركها مع بعض الدول المستهلكة للنفط لضخ كميات من احتياطياتها التجارية والاستراتيجية لكن ثبت أن ذلك الاعتقاد خاطئ وعادت الأسعار للارتفاع بعد انخفاضها قليلاً ولفترة قصيرة جداً لتصل إلى 93 دولاراً لخام برنت حسب آخر إقفال وتجاوز خام نايمكس الأميركي 92 دولاراً مما يشير إلى أن أسباب ارتفاع الأسعار ذات علاقة وارتباط بعوامل عديدة أهمها ارتفاع الطلب يضاف لذلك التوتر في ملف أزمة أوكرانيا مع روسيا إضافة لموجة البرد الشديدة في أوروبا وأميركا مما رفع الطلب على زيت التدفئة والغاز إلا أن هناك عاملاً جوهرياً تتحمله الدول الكبرى في استهلاك الطاقة تحديداً في أوروبا وأميركا بتحولها المتسارع نحو الطاقة المتجددة دون مراعاة لأهمية توازن مزيج الطاقة لديها حيث أصدرت قرارات واتخذت توجهات ساهمت بخفض استثمارات شركات الطاقة لديها لزيادة اكتشاف وإنتاج المزيد من الروود الأحفوري وهو ما حذرت منه دول منتجة رئيسية للطاقة في مناسبات عديدة وبأن العالم سيواجه مشكلة إمدادات في هذا العقد حيث ينمو الطلب بأكثر من نمو العرض وقد ذكر ذلك العديد من وزراء الطاقة في دول أوبك بل أكدت تقارير وبحوث الطاقة من جهات متخصصة دولية أن العالم يحتاج لضخ استثمارات بحوالي 525 مليار دولار في قطاع النفط والغاز سنوياً وحتى العام 2030 ليتم الحفاظ على نمو المعروض بما يكفي لتلبية الطلب المتنامي بينما هبط الاستثمار بهما حالياً إلى 330 مليار دولار أي بنسبة انخفاض تقارب 40 بالمائة عن ما تحتاجه الأسواق فعلياً فأسعار الطاقة مرشحة للارتفاع وهذا ما تتوقعه بنوك عالمية مثل جي بي مورغان وجولدمان ساكس بأن تتجاوز الأسعار حاجز 100 دولار لمستويات عالية وفترات طويلة نسبياً وبذلك فإن أي تضخم يأتي من أسعار الطاقة تتحمل مسؤوليتفعلياً الدول المستهلكة من الاقتصادات الكبرى التي تحولت لمزيج طاقة يركز على النظيفة والمتجددة منها بنسب لا تحقق أمن الطاقة واستدامته لديهم.
ولعل أهم العوامل الأخرى لارتفاع معدلات التضخم تتركز في ارتفاع إيجار الحاويات بأكثر من 600 بالمائة لتتخطى 12 ألف دولار للحاوية الواحدة ببعض الخطوط بسبب إشكاليات عديدة يواجهها قطاع النقل البحري في التحميل والتفريغ في الموانئ الكبرى عالمياً إضافة لنقص إنتاج مدخلات عديدة تحتاجها صناعات كبرى كشح إنتاج الرقائق الإلكترونية الذي خفض إنتاج المركبات عالمياً بالإضافة لأثرها بانخفاض إنتاج الأجهزة الكهربائية والإلكترونية عموماً وينطبق هذا الشح على إنتاج السلع الغذائية والعديد من الاحتياجات الشخصية مما أدى لارتفاع أسعارها نتيجة انخفاض المعروض قياساً بنمو الطلب كما أن نقص العمالة بدول مثل أميركا وألمانيا وغيرها مع تشديد إجراءات منع تفشي وباء كورونا ساهم برفع الأحور وانعكس ذلك في تكلفة المنتجات وإضافة عامل رئيسي لتعطل سلاسل الإمداد عالمياً وهو ما يمكن أيضاً اعتباره تحدياً كبيراً فمتى ستتمكن المصانع بالعالم من تلبية الطلب الكبير المقيد في دفاترها ومتى ستحل مشكلة ارتفاع أجور الحاويات وتكاليف النقل عموماً ؟ ويضاف لعوامل معضلة حل مشكلة التضخم التوترات السياسية بين الدول الكبرى والمخاوف من وقوع حروب لا يعرف أين ستصل بحجمها فمن ملف الأزمة الروسية الأوكرانية وتداعياتها المحتملة على إمدادات الطاقة لأوروبا إلى التوترات بين الصين وتايوان ولعل أهم الصدامات الكبرى بالعالم هي المواجهة الأميركية الصينية التي تأخذ طابع الحرب التجارية لكنها بدأت تأخذ منحى تصعيد عسكري وسياسي بينهما بعد تشكيل أميركا لحلفها مع أستراليا وبريطانيا في المحيط الهادي والهندي باسم حلف أوكوس فهذه التوترات تلعب دوراً مهماً في تأخير معالجة التضخم بل قد تفاقم من حجمه وطول أمده.
حلول ارتفاع التضخم لا تبدو كما حدث في مناسبات سابقة حيث كان لإجراءات السياسة النقدية والمالية في الاقتصادات الكبرى الدور الرئيس في معالجته فالمرحلة الحالية تتداخل فيها عوامل عديدة صنعتها الدول الكبرى بسياساتها في ملف المناخ التي نظرت لمعالجته من منظور الانبعاثات الصادرة عن الطاقة
الكربو هيدراتية دون اكتراث بمصادر الانبعاثات الأخرى مما سبب انقساماً عالمياً حيال معالجة ملف المناخ إذ لا يمكن قبول أن يتم على حساب الدول المنتجة للنفط والغاز إضافة لعوامل التوترات السياسية والاقتصادية بين تلك الدول التي تلعب دوراً مهماً في زيادة معدلات التضخم وتفرض مخاوف دولية من تصعيد تلك الأزمات مما يعني أن من يشتكون من التضخم ويحاولون معالجته بأدواتهم التقليدية هم أنفسهم من يفجرونه بسياساتهم المتعارضة مع ضرورة خفض التوترات وزيادة التعاون الدولي لحل الخلافات لتيسير انسيابية التجارة الدولية وعودة الإنتاج والأسعار لما قبل جائحة كورونا.