د. أحمد محمد الألمعي
يعتبر فهم سيكولوجية الأقليات من أهم المواضيع التي يجب فهمها لكي نتمكَّن من فهم أهم عناصر الكثير من الصراعات في منطقة الشرق الأوسط، وقد تكون من أهم المداخل لبدء عملية السلم الاجتماعي وتفادي العنف. والأقليات minorities هي مجموعات بشرية ذات سمات وخصائص تختلف عن مثيلاتها في مجتمع الأكثرية، ولكل أقلية منها سمات قومية أو إثنية أو دينية وحتى ثقافة نفسيه مشتركة بين أفرادها.
تقدر الدراسات وجود 223 جماعة إثنية - أقلية كبيرة في العالم مجموع أفرادها يقرب من900 مليون نسمة. ومن أشهر الأقليات الدينية في الغرب اليهود، وتعتبر الولايات المتحدة الدولة الأكثر احتواء في العالم للأقليات بأنواعها. ويعتبر الوطن العربي موطن الحضارات والديانات القديمة وقلب العالم الإسلامي، لذا كثرت فيه الأقليات المحلية والوافدة العرقية واللغوية والدينية. وتذهب كثير من الدراسات إلى أن الغالبية العظمى من سكان الوطن العربي (80 %) يتحدثون اللغة العربية كلغة أصلية، ويدينون بالإسلام، وينتمون سلاليًّا إلى العنصر السامي الحامي، وأن الأقليات الإثنية في المجتمع العربي تختلف عن الأغلبية في أحد المتغيرات الأربعة الآتية: اللغة، والدين، والعرق، والعادات والتقاليد والسلوك، أو ما يُعرَف في علم أنثروبولوجيا الثقافة بالعقلية.
وللدين في منطقة الشرق الأوسط أهمية فائقة في الحضارات المختلفة التي سادتها. وهناك أديان ومذاهب في هذه المنطقة غير متحدرة من الأديان التوحيدية الثلاثة، بل هي من أديان أخرى. فمن المهم إذًا من الناحية التاريخية والثقافية النظر إلى هذه المنطقة على أنها ملتقى الديانات، والبوتقة التي انصهرت فيها الانتماءات الدينية والعرقية المختلفة بين آسيا وإفريقيا وأوربا. فإذا اعتمدنا الدين معيارًا وجدنا أن هناك على سبيل المثال وثنيين ومسلمين ومسيحيين ويهودًا ومجوسًا والكثير من الديانات والمذاهب المختلفة لامجال لحصرها هنا. وإذا اعتمدنا الأعراق واللغات، فهناك الكثير من الأقليات على سبيل المثال: كرد، وفرس، وترك، وتركمان، وغيرهم.
وتنشأ الأقليات عادة نتيجة عمليتين أساسيتين هما الهجرة أو التهجير ويدخل ضمن ذلك الغزو والاستعمار والحروب التي تؤدي إلى تغيير ديموغرافي كبير في كثير من الأحيان كما نرى الآن في سوريا على سبيل المثال. ويشترك أفراد الأقليات في أحيان كثيرة في ثقافات وسيكلوجيات متقاربة، وحسب العديد من الدراسات التي قام بها علماء النفس أمثال موسكوفيشي وليغ Moscovici and Lage 1976، فقد لاحظا أن أفكار العنصرية والكراهية وإقصاء ونكران وجود الآخر موجودة بكثرة عند الأقليات، عكس الأغلبية التي تميل للاطمئنان بسبب كثرة عددها، لكن الأقليات تميل إلى تبنى عقلية التعصب والكراهية في خطابها ضد الأغلبية المحيطة بها.
ويزداد تأثير فكر الأقلية المتصلّب حين تظهر بأنها تقدم تضحيات شخصية أو مادية ذات قيمة، وغاية الأقليات من خلال هذا التعصب هو «تغيير وجهات نظر الأغلبية لصالح ما يخدمها من الأفكار» (جعل الأغلبية ترى نفسها بنظرة إزدرائية). ففي واحدة من التجارب، أصدر «موسكوفيشي وليغ» تعليماتهما إلى أقلية مؤلفة من حليفين لوصف لون أزرق على أنه لون أخضر (وهو رأي خاطئ) لكن تفاجؤوا أن الأغلبية التي كانت في البداية تقول الصواب غيرت رأيها إلى رأي الأقلية الذي كان رأيها خاطئاً، فدلت النتائج على أن وجهات نظر الأغلبية تغيَّرت للأخذ بوجهات نظر الأقلية، وعلى أن هذا التأثير استمر في الظهور حتى بعد انسحاب الأقلية من التجربة وإعطاء الأغلبية لآرائهم في غياب الأقلية. وخلصا من خلال هذه التجربة إلى أن ثبات الأقلية على رأيها الخاطئ، جعلها تغير رأي الأغلبية الصائب لصالحها.
وتقوم الأقليات بناءً على مشاعر وأفكار المظلومية والاضطهاد والعزلة التي تنشرها في أتباعها وتغرسها في تفكيرهم (أنهم محقورون مظلومون مضطهدون).
تتميّز الأقليات والقوميات الهامشيّة بالتماسك والتضامن بحُكم «عددها» القليل، مقارنة بحجم الأغلبية، في منطقة أو بلد معيّن، يدفعها إلى ذلك شعورها المهيمن والدائم بخطر»الابتلاع» و»الذوبان» في الأغلبية، ويدفعها ذلك إلى «الانغلاق» ثقافياً وسياسياً وأحياناً «اقتصادياً»، وهذا ما يفسِّر وجود «أنظمة اجتماعية» تقليديّة وموازية لنظام «الدولة»، يلبّي لديها حاجة «الخوف» من الآخر وينمّي حالة «التوتّر» ويدفع بها إلى «الاعتزال» وبالتالي إلى تبنّي «خطاب العزلة» المصحوب بصراخات التّهميش والظلم والاحتقار.
يزداد احتمال وقوع تأثير الأقلية إذا اتسمت وجهة نظر هذه الأقلية بالاتساق والمرونة، ولاقت استحسانًا من الأغلبية. فتبني رأي متسق وغير متردد يزيد من استحسان الأغلبية له، مما يؤدي إلى زيادة فرص التكيف مع رأي الأقلية لكن أي آراء مترددة للأقلية قد تؤدي إلى استبعاد الأغلبية لآراء هذه الأقلية وادعاءاتهم.
يقع تأثير الأغلبية عندما يمتثل الناس لمعتقدات وسلوكيات محددة ليتقبلهم الآخرون. وعلى العكس من تأثير الأغلبية، نادرًا ما يمكن للأقلية التأثير في الآخرين من خلال التأثير الاجتماعي المعياري لأن الأغلبية لا تكترث بمنظور الأقلية بينهم. وحسب دراسات العالم النفسي وود 1994، للتأثير في الأغلبية، ينبغي على الأقلية تبني اتجاه التأثير الاجتماعي المعلوماتي أو العقل الجمعي. ومن خلال تقديم معلومات لا تعلمها أو تتوقعها الأغلبية، تلفت هذه المعلومات الجديدة أو غير المتوقعة انتباه الأغلبية ليفكروا في وجهة نظر الأقلية أو يدرسوها. وبعد التفكير، عندما تجد الأغلبية صحة وجدارة في وجهة نظر الأقلية، تزيد فرصة قبول هذه الأغلبية لجزء من رأي الأقلية أو كله.
ركزت أغلب الأبحاث المبكرة التي تناولت تأثير الأقلية على كيفية تأثير الأغلبية على الأقلية، وذلك بناءً على افتراض الكثير من علماء النفس بأنه من الصعوبة بمكان أن يكون للأقلية تأثير على الأغلبية. ولموسكوفيتشي رأي مختلف في ذلك؛ إذ كان يؤمن بأنه من الممكن لتأثير الأقلية أن يفوق تأثير الأغلبية. ومن ثم، نفذ دراسته على تأثير الأقلية في عام 1969. وكان بحثه مهمًا إذ كان واحدًا من أولى الدراسات التي أوضحت أن الأقلية قادرة على تغيير آراء الأغلبية.
يمكن للمرء الوقوع تحت تأثير الأقلية، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر. لكنه إذا لم يكن واعيًا بالتأثير، يمكن أن تُعَد أفكار الأقلية أفكاره الخاصة، مع تجاهل المصدر الأساسي لهذه الأفكار.
وكمثال حي على ما سبق ذكره سنأخذ الحوثيين كأقلية في اليمن وسبب رئيسي لصراع دموي تم دعمه من قبل ملالي طهران وزعماء مليشيات إرهابيه تم تأسيسها من قبل نظام ما يسمى بالولي الفقيه الذين ما زالوا يعيشون من خلال سيكولوجية وثقافة الأقلية التي تشك في كل من حولها، وترى في الثورات ودعم الصراعات الدموية العنصر الرئيسي لثقافة تخلو أهدافها من خطط بناء مجتمعات مزدهرة، متحضرة ومستقرة. فمنذ ظهور الحوثيين كحركة متمردة في اليمن، استخدم مناصروهم تعريف أقلية لهم ضمن عنصرين أساسيين، الأول: منحهم حق التميز عن الآخرين، وفي الثاني: خلق بيئة تعاطف معهم، ومن ثم تغيير صورة الحوثي ومشروعهم السياسي من صورة العنف اليومي الذي يمارسونه ضد كل من يعارضهم إلى قضية حقوقية فيها كثير من التضليل.
منذ اللحظة الأولى كان خطاب الحوثي يضمر طموحه السياسي عبر ادعاءين: المظلومية، وشعاراته ذات الطابع الديني والمعادي لأميركا وإسرائيل. وعندما أتيحت له الفرصة، حتى بوصفه حليفًا داخليًّا، أرسل مسلحيه للسيطرة على المدن. وفي هذا السياق أصبحت الأقلية مشروعًا ممنهجًا لابتلاع الأكثرية، مشروعًا ذا إرث سياسي مغلف بغطاء ديني تاريخي ممثلاً في أحقية الأمام في حكم اليمن ممزوجاً بمظلومية الأقلية والاضطهاد. وقد استفاد الحوثي من مفهوم الأقلية، فهو على مستوى مناصريه يضمن تحفيزهم لوجود عدو دائم، وبالتالي ديمومة استعدادهم القتالي. وفي الوقت نفسه إنتاج ثقافة المظلومية الحاضرة في تراث عقائدي عميق. حتى إن أي حرب سيخوضونها هي دائمًا نحو عدو أميركي صهيوني، وآخر محلي داعشي صنعه هذا العدو. فحربهم ضد القاعدة هي دائمًا ضد أميركا، يعززها شعار أو مقولة مؤسس الجماعة حسين الحوثي: «القاعدة صناعة أميركية».