• ابنة الكتب التي انتصرت في جميع معاركها في سبيل مشروعها الحضاري
• تكتب وكأنها تسرد حكاية مليئة بالتشويق وخلق العراقيل التي تتمكن من حلها
• الكتابة عن مي قد لا تنتهي فهي متجددة بتجدد الحياة
منذ أسابيع معدودة احتفل مركز الشيخ إبراهيم بن محمد آل خليفة للثقافة والبحوث بذكرى تأسيسه العشرون، صاحب الاحتفال فعاليات ثقافية وفنية استمرت على مدى أيام وليال وبحضور لافت لأهل الثقافة من كل مكان، وعلى هامش الاحتفال تم إصدار كتاب بعنوان (حكايات.. بدايات وتقاطعات) بقلم معالي الشيخة مي بنت محمد آل خليفة الذي وصلني بإهداء خاص جدا، فأينما حلت مي وجد الجمال والرقي في كل التفاصيل، وبعد كل فعالية ثقافية ترعاها يراودني حلم الكتابة عنها فأتردد خشية أن لا تستوعب كلماتي إنجازاتها في المشهد الثقافي في مملكة البحرين، فالكتابة عنها تأخذك إلى العديد من الاتجاهات، فهل نكتب عن إنجازاتها وإبداعها في التأليف والفن ومسيرتها الثقافية، أم نكتب عن قوتها و قدرتها الجبارة في مواجهة الصعوبات والتحديات التي واجهتها وابتكارها المتواصل لحلول البقاء والمقاومة لتحقيق أحلام طالما آمنت بها، أم نروي تفاصيل رحلتها وتمسكها برؤيتها الراسخة كالجبال في سبيل تحقيق التنمية المستدامة من خلال ما تقدمه من محتوى ثقافي متنوع، أو نستعرض جمال روحها وحضورها الراقي واستقبالها للجميع بابتسامتها المشرقة ومراعاتها لأدق التفاصيل فيما يتعلق باختياراتها الأنيقة من تصميم بطاقات الدعوة و منشورات المراكز واللوحات الفنية المعلقة في بيوتها الثقافية وباقات الزهور ولمساتها الجميلة في كل مكان.
وحدث أن التقيت صدفة بالدكتورة رفيعة غباش للمرة الأولى وهي شاهدة عيان على مشاريع الثقافة منذ بدأت بها معالي الشيخة مي، تبادلنا أطراف حديث سريع فحثتني على قراءة مقالها المنشور في صحيفة الأيام البحرينية بعنوان «إن الذي سيضيع تاريخه وهو قادر على حفظه، لن يستطيع الاحتفاظ بمستقبله أبدا»، وكم راق لي وصفها لـ»مي» بأنها المختارة لتلبية نداء حفظ التاريخ والتراث، وكم شعرت بالفخر بها، فنحن في البحرين محظوظون نجول في حدائقها العامرة بالجمال والرقي والأدب، بيوتها الثقافية وإطلاقها غير المسبوق لمبادرة الاستثمار في الثقافة منذ عام ????، حصولها على العديد من الجوائز والأوسمة لست بصدد ذكرها في مقالي المتواضع فهي سيدة استثنائية بجميع المقاييس، فقد تم تصنيفها من ضمن النساء الخمسين الأكثر تأثيرا في العالم العربي من قبل مجلة فوربس، حيث ارتقت الشيخة مي بتراث البحرين والمشهد الفني وتعزيز الاقتصاد الإبداعي المحلي بما يتوافق مع أهداف التنمية المستدامة التي تؤمن بها أشد الإيمان وعملها الحثيث على إضافة مواقع البحرين إلى قوائم اليونسكو للتراث والثقافة.
عتاب المحب
ما زلت أذكر عتابها اللطيف في زيارتي الأولى لمركز الشيخ إبراهيم بعد افتتاحه بعدة سنوات وانبهاري بجمال المكان الذي بني بأحد أزقة المحرق القديمة لتقول لي: كيف لم تزوري هذا المكان من قبل وأنت ابنة المحرق؟ ومنذ ذلك اليوم حرصت أن اعرف أكثر فقرأت لها كتاب «الأسطورة والتاريخ الموازي» وبعدها كتاب «سابازاد ورجال الدولة البهية» الذي يحكي قصة السيطرة البريطانية على الخليج العربي وكتابها الممتع عن مستشار حكومة البحرين تشارلز بلغريف، وغيرها الكثير من الإصدارات التي توثق كل تلك القصص القديمة والصور والمشاهد التي لم نعرفها إلا من خلال استعادتنا لتاريخ أجدادنا هناك في بيوتهم التي أصبحت وجهة للزوار من داخل وخارج البحرين، فكلما اصطحبت معي من يزور تلك الأماكن أشعر بدهشة الاكتشاف وحميمة الذكريات، المشي بين أزقتها و»دواعيسها» كما نقول بالعامية البحرينية، بقايا الجدران التي جددتها بجمال عصري وأضافت لمساتها الشخصية الخاصة، من أثاث وكتب ومقتنيات وإصدارات ثقافية متنوعة تعرض بذوق رفيع يعبر عن شخصية وعراقة كل مركز ثقافي لتعكس هويته الخاصة، التأثيرات الصوتية الخافتة التي تنساب لروحك فتضفي جمالا فوق الجمال وتجد نفسك تقع في غرام المكان بكل حواسك دفعة واحدة، فتحضر ذاكرة المكان وتعود لتحيا بعضا من تفاصيل الماضي حين تمر على احد البيوت القديمة هناك التي فقدت بريقها بعد رحيل المرأة الطيبة التي سكنتها وكانت تشرع أبواب بيتها وتهلي وترحب بالعابرين، وتقدم لهم الحلوى البحرينية بكل حب وطيبة تشبه أهل البحرين، باب مفتوح للكرم وابتسامة حب غير مشروط لأي زائر عابر تغمرك بسعادة لا توصف للإنسانية الحقة وأمن وأمان أهل البحرين.
قصص الثقافة والتاريخ وشخصية الشيخة مي المتعددة بين كاتبة وفنانة وثقافية بامتياز، علاقتها بالكتابة والكتب ونادي القراءة الخاص بمجموعتها المختارة قبل أن يأخذ ها العمل الرسمي، مجازفاتها الكثيرة وأحلامها الكبيرة، ونشاط مركز الشيخ إبراهيم الذي استمر على مدى عقدين من الزمان منذ تأسيسه ولم يتوقف حتى في أصعب الفترات ليحمل رسالة التنوير والانفتاح على الثقافات الأخرى، كل بيت من تلك البيوت يحمل تاريخ ميلاد واسم والدها، وهنا تشير إلى يوم الافتتاح والداعم، فهي كما تصف نفسها في كتابها الرائع الذي يحكي قصة اكتشاف المكان بعد أن قادتها الكتابة التاريخية إلى كل هذا الإنجاز الثقافي في تحد دائم مع الاستدامة مقيدة بالأحلام والمشاريع التنويرية إلى مسار اختارها ولم تختاره، سعيها الحثيث إلى الاستثمار في الثقافة الذي يهدف إلى تأسيس بنية تحتية ويحقق السياحة المستدامة، وإيمان الداعمين بها لمصداقيتها في تحقيق حلمها ورسالتها الصادقة بتأمين الدعم المستمر لاستمرارها في العطاء، رعايتها لكل تلك الأحداث الثقافية الندوات وورش العمل والأمسيات الثقافية وكثافة البرامج المتنوعة لكل الفئات المعنية، فينتج لنا في البحرين ربيع ثقافي متجدد حافل بالكثير.
أحلام مدونة للتاريخ
كتبت الشيخة مي بنت محمد هذا الكتاب للتاريخ حيث حكت رحلتها في العمل الثقافي منذ بداية أول مشروع، رصدت الأحلام والجهود والسنوات التي أثمرت عن ?? مشروعا في مجالات الثقافة والبحوث وعدد كبير من الإصدارات الثقافية والمحاضرات في كافة المجالات العلمية والفنية والأدبية والاجتماعية والسياسية بالإضافة إلى عدد من الأمسيات الموسيقية استضافت أسماء فنية من الشرق والغرب عبر المواسم الثقافية التي لم تتوقف رغما عن أي ظروف قاهرة عبر مواسم ثقافية امتدت لعشرون عاما، فهي كاتبة ومؤرخة وأول وزيرة إعلام في الخليج العربي بالإضافة إلى عملها الحكومي كرئيسة هيئة البحرين للثقافة والآثار، انغمست في حراك ثقافي بالوراثة فهي من نسل أدباء وشعراء، وهي ابنة الكتب التي انتصرت في جميع معاركها في سبيل مشروعها الحضاري، أعادت كتابة المشهد التاريخي برفقة الشغف الذي يسكنها، أعادت صياغة المفاهيم فالاستثمار في الثقافة والفكر وليس العقار، ولها رؤية استشرافية متفائلة رغم كل التحديات، عملت على بناء مشروع ثقافي يلبي احتياجات المواطن والزائر لمملكة البحرين من خلال سياحة نوعية حيث أسست هوية ثقافية لها خصوصية تعبر عن حقيقة وجمال مملكة البحرين بكل ما يوجد في تلك البيوت العريقة وما تحمله من ذاكره وجدانية متفردة.
أجمل ما في الكتاب تلك التقاطعات والمدونات الحميمة المكتوبة بخط يدها، هناك تتعرف على مي وهي تكتب بحب وصدق وحرقة على هدفها الأهم لأفكار تحتل تفكيرها، أحلام تحققت على أرض الواقع بعد سنوات من كتابتها، فمن يقرأ تلك السطور يدرك أنها تكتب للتاريخ، تكتب بعقلها لا قلبها عن الشأن الثقافي الذي يحركه حبها للوطن، تكتب وكأنها تسرد حكاية مليئة بالتشويق وخلق العراقيل التي تتمكن من حلها.
المشاريع الثمانية والعشرون موثقة في الكتاب بكل تفاصيلها، بالصور والوثائق المتعلقة بكل مركز وبيت ثقافي عامر لكن هناك ثمانية وعشرون أخرى غيرها، وعلى سبيل المثال لا الحصر بحيرة المنامة واستعادة الصورة التاريخية للمنامة المطلة على البحر ومتحف عالي وتطوير سلسلة التلال الأثرية ومصانع الفخار في عالي وإبراز المنتج البحريني على المستوى العالمي بالإضافة التي متحف ومركز أبحاث مستوطنة سار ومتحف الفن الحديث الذي قدمت تصميه المهندسة العالمية الراحلة زها حديد، متحف الصوت ومتحف معابد باربار، ومشروع العربي الصغير الذي يعنى بتعليم اللغة العربية الصغار، وفضاء التسامح و بيت الشيخ عيسى بن راشد آل خليفة، وبيت الفنان عبدالله المحرقي والدكتور أحمد باقر وغيرها الكثير.
الكتابة عن مي قد لا تنتهي فهي متجددة بتجدد الحياة، تملك إيمانا بالإبداع وتسعى لخلق جيل قادرة على مواصلة الإبداع في العمل الثقافي على المستوي المحلي والإقليمي والعالمي، تؤمن بدور الثقافة في زرع الأمل ونشر الفرح والجمال وإقامة جسور التواصل بين الشرق والغرب، باختصار... (لله درك فقد أتعبت من بعدك يا أيقونة الثقافة والجمال).
** **
د. مياسة سلطان السويدي - كاتبة وأكاديمية بحرينية