محمد جبر الحربي
(1)
أَيْنَ أَنَا الْآنْ..؟!
أَسْأَلُ،
أكْتُبُ،
أُغْمِضُ عَيْنَيَّ،
وَأَكْتُبُ بِالْقَلْبِ السِّيرَةَ،
سِيرَةَ طِفْلٍ..
يَكْبُرُ فِي الصَّحْرَاءْ
لكنْ لَا يَنْسَى الْهُدْهُدَ،
لا الأشجارَ تُسَبِّحُ عاليةً،
خَاضِعَةً،
لا الْمَاءْ.
هيَ الطفولة الساحرة الآسرة، وسنواتُ الدهشةِ والعيونُ وما تَهَب، والروحُ والذاكرة: جذور المدينة المنورة والنخلُ والنعناع والورد، وطفولة الطائف، والحجاز، وكذلك الرياض ونجد، حيث تنقّلتُ ذهاباً وعودةً، حتى استقر الفتى في العاصمة الفتيّة، ليكمل دراسته، في الصف الثاني، في متوسطة مدارس الأبناء التابعة لوزارة الدفاع والطيران.
ثم التنقل بين العواصم العربية والعالمية شاباً باحثاً متطلعاً متلفتاً، والاستقرار في بعضها، وحين الأشد متأملاً مدوناً يحصي جروحه، انكساراته وانتصاراته وأفراحه ومراكبه، وهو أميلُ إلى ركنه الأثير.
لا بد من هذه المقدمة لفهمي، فهم تشكل الإنسان وميوله.
واليومَ أكتبُ هذا هنا لأستقصي كيفَ ابتدأ الأمرُ معي
أعتقد أنه ابتدأ مبكراً جداً..
ولكن ما هو الأمر..؟!
الأمر جَلَل وإن بدا عادياً وبسيطاً للناس، وهو يعاودني بينَ يأسٍ وأمَل، وحبٍّ وكراهية، متأرجحاً على مراجيحِ الطفولةِ التي أعود إليها طائراً كلما غفوتُ أو صحوتُ، كلما تعبتُ أو كتبتُ عبر منحدرات الزمن.
الأمر يكمنُ في حُبّ الخشب لِذَاته، والسفر في عوالم أدواتِهِ الموسيقية (الناي والعود والقانون والكمان وغيرها)، وقد استمعت إليها جميعها وأنا طفلٌ في الطائف، في (الهدا، والشفا، والردَّف والقديرة، وشهار، ووج، والمثناة، وجبرة، والحوية، وغدير البنات) عبر طلال مداح، وفوزي محسون، والسندي، وغازي علي، وعبدالله محمد، ومحمد عبده.. هناك بين الجبال والغيم، والسفوح والوديان والغدران، حيث شكلت البدايات لحبي للفن والأدب.
وكرهي الشديد للحديد، وأصوات المعادن، ما عدا ما يُصْطَفَى من نزف الآلات الموسيقية منها، عربيها وغربيها.. وعدم ارتياحي للبلاستيك وأصوات أكياسه التي تتعبني، واستغراب الناس من القلق الذي تصيبني به هذه الأصوات، إضافةً إلى شخصيته الغربية، فلا تعرف بمَ تصف شعورك عند سماعهِ، أو رؤيتهِ أو ملامستِه، رغم عدم إنكاري لأهميته وضرورته، ودوره في تسهيل الحياة.
لكنني أعرف كذلك أذاه بشكلٍ عام، وعلى الحياة الفطرية في البحار والمحيطات.
وهكذا اشتدت في الثلاثينات تأملاتي في الخشب والحديد، خاصة حين أحرقتنا الحروب، وآذى البشرَ الحديدُ، وبدأ يأخذ بعداً شعرياً وفكرياً لدي، مع تطور فهمي لأسرار الكلماتِ، وقيمة دلالالتها وإحالاتِها، وأسرار الكتب والمكتبات، ومعرفتي الثرية السعيدة بالعقول الجميلة، وذلك بكل تأكيد بعد قبضي على جمرة الشعر، واكتوائي بجمر الشعر، ونهلي من خمر الشعر:
وهنا استعادة مخيفة للخشب، لأنه لم يكن الخشب الذي أحببت، بل كان كسلاحٍ قاتلٍ على يدِ الإهمال، عندما كنت أمشي في الشارع، وأسقط العمال اليمانيون أعمدة البناء الخشبية على من أعلى البناء على الأرض، بعد أن انتهوا من حاجتهم إليها لبناء العمارةِ، ولم يلمحوا الطفل الذي يمشي تحتها، أو في ظلها، فكتبت:
سيرة
وَبِالْأَمْسِ مِتُّ،
وَأَذْكرُ أَنّي خِلَالَ الْحَيَاةِ الَّتي عِـشْتُ مِتُّ.
وَقدْ كُنْتُ مَيْتاً قُبَيلَ الْحَياةِ،
وَعِنْدَ بُلُوغِ الْفِطَامِ،
تَوَطَّأَ طِفلٌ تُسَابِقُ ضِحْكَتُهُ الرِّيحَ ظَهْرِي.
وَقَالُوا بِأَنّيَ كِدْتُ،
وَطِفلاً رَكَضْتُ،
تَسَاقَطَتِ الْعُمُدُ الْخَشَبِيَّةُ بَيْنَ يَدَيَّ،
وَقَالَ لِيَ الْعَامِلُ الْيَمَنيُّ: «لَكَ اللهْ» مِنْ وَلَدٍ
فَنَفَضْتُ التُّرَابَ وقُمْتُ.
وَهَا أَنَا ذَا فِي الثَّلاثِينَ أَفْقِدُ غُصْنَاً فَغُصْنَاً مِنَ الشَّجَرِ الْعَائِلِيِّ
فَإِنْ مِتُّ.. مِتُّ..!